24 يوليو 2024
السودان... الطريق إلى إسرائيل
قبيل نهاية السبعينيات من القرن الماضي، قام وفد عسكري أميركي بزيارة سرية إلى السودان برئاسة وليام كوهين، نائب وزير الدفاع الأميركي والذي أصبح فيما بعد وزيراً للدفاع. كانت أجواء المصالحة الوطنية في السودان لم تفقد زخمها بعد، ومشاركة أحزاب الأمة والاتحادي والإخوان المسلمين الرئيس في حينه، جعفر نميري، الحكم تثير أسئلة كثيرة. في تلك الأيام، كنت مع بعض القيادات السياسية الذين لبوا دعوة على الغداء، من نقيب المحامين آنذاك، ميرغني النصري. في الحديث قبيل الغداء، وجه رئيس الحزب الاشتراكي الإسلامي، بابكر كرّار، السؤال إلى وزير الصحة وقتها الدكتور عبد الحميد صالح، كيف يصل بكم الحال بأن تجلسوا وتتباحثوا مع اليهود؟ فرد صالح: وأين هم اليهود؟ فقال له كرار: وكوهين رئيس الوفد يكون إيه؟ فأسقط في يد الوزير، فقال ونعمل لهم إيه هو وفد أميركي. وتتالت الزيارات وبلغت ذروتها على أيام النميري، وانتهت بترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل. ولما حكم الشعب بانتفاضته في أبريل/نيسان من عام 1985 بنهاية عهد نميري، جرت محاكمة شهيرة أطلق عليها "محاكمة الفلاشا". ومثل أمامها أركان نميري، نائب الرئيس اللواء عمر الطيب وقادة الأجهزة الأمنية، وصدرت بحقهم أحكام قاسية بتهمة الخيانة العظمى، بلغت في حق نائب نميري 90 عاماً. ثم ماذا جرى؟ في 30 يونيو/حزيران 1989، وقع الانقلاب الذي دبرته الجبهة الإسلامية، بقيادة الدكتور حسن الترابي، وكان من أول القرارات التي اتخذت الإفراج عن جميع المعتقلين في محكمة الفلاشا، وأركان حكم نميري الآخرين. بل عيّن بعض المفرج عنهم تكريماً لهم سفراء في إثيوبيا، البلد الذي انطلقت منه عملية الفلاشا، وأصبح شاهد الملك الذي انقلب على زملائه، وثبت الجرم الواقع بترحيل الفلاشا، المندوب الدائم للسودان في الأمم المتحدة.
تُساق هذه المعلومات للتدليل على أن النظم الشمولية التي حكمت السودان، وحينما تستفحل أزماتها الداخلية، الاقتصادية والسياسية، تبحث عن قشة الغريق، فتتعلق بها، ظناً أنها بذلك تكسب رضى الدوائر الفاعلة في العاصمة الأميركية، وخصوصاً المرتبطة باللوبي الإسرائيلي. أكثر من هذا، كتبت في "العربي الجديد" (4/11/ 2015) عمّا أثير في إحدى لجان الحوار الوطني، المستمر الآن، في السودان من مطالب ودعوات إلى الاعتراف بإسرائيل، يسمونها "تأدباً" إقامة تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لكن، يصيبك بالهول ما قاله أحد مقدمي البرامج في قناة الخرطوم الخاصة، وهو يهذي بكلام بعيد جداً عن أكثر الخيالات جموحاً، إننا سنعيش يوماً في عاصمة اللاءات الثلاث، لنسمع من يقول "ما هو العالم العربي ده، كله عنده علاقات مع إسرائيل.. ليه نحن ما نعمل علاقات مع إسرائيل". ويقول "أي حاجة طلبتها أميركا عملناها ليها"، أو قوله "العرب ديل مش عملاء نحن دايرين (عايزين) نبقى عملاء زيهم". هذا الحديث السمج ليس نسيج وحده، فثمة لهاث غريب وتسابق بين المسؤولين السودانيين في الفترة الأخيرة، ورهان بعودة وشيكة للعلاقات مع أميركا. زيارات رسمية وشعبية إلى واشنطن، وأحاديث مبذولة، محورها واحد، هو العلاقة مع أميركا ضرورة مقدمة. هذه الحمى والحرص على عودة العلاقات مع أميركا يمكن فهمها في سياق الأزمة الاقتصادية الحادة التي يمر بها السودان. تجليات هذه الأزمة نلمسها في تصريحات المسؤولين الحائرة في الخرطوم، والتي ترهن كل الأزمات الحالية في أمرين "فقدنا النفط الذي ذهب مع انفصال جنوب السودان" أو "الحصار الأميركي المؤثر". في الحالة الأولى، يغفل المسؤولون أنهم يقرّون بخطأ السياسة التي راهنوا عليها باعتمادهم على النفط الطارئ، مكان أعمدة الاقتصاد الزراعية المجرّبة والراسخة ومصدر الدخل الحقيقي للسودان بلداً زراعياً، وكأن الباب الأميركي لا تدخله النظم الشمولية التي سطت على الحكم في السودان، إلا عبر البوابة الإسرائيلية.
كانت أسباب نميري في ترحيل الفلاشا اقتصادية، واستنفاد النظام كل خياراته، لمعالجة الأزمات الاقتصادية، والتي بدأها بخفض غير مبرر عام 1978 للجنيه السوداني أمام الدولار. وتلك خطوة كارثية، أودت عملياً باقتصاد السودان. والحال اليوم أشبه بالبارحة، بل يعيش أسوأ كارثة اقتصادية، يغوص فيها الاقتصاد السوداني الذي يعاني من عطب كبير في عجلة الإنتاج في أكبر المشاريع الزراعية (الجزيرة والرهد وخشم القربة وغيرها). وعطب كبير يصيب عجلة الصناعة بتوقف العمل في أكثر المصانع ( 60 % من مصانع الخرطوم متوقفة، وفقا لوكالة الأنباء الفرنسية في ديسمبر/كانون أول الماضي) التي آذتها السياسات الحكومية التي ضربت الصناعة السودانية في مقتل. صناعة النسيج التي كانت حتى تاريخ انقلاب الرئيس عمر البشير تعيش أفضل سنواتها أغلقت غالبيتها أبوابها.
الأسباب في ذلك شبيهة بحال كل مرافق الدولة التي قتلتها سياسات التمكين للحركة الإسلامية في قطاع الدولة بالإعفاء للصالح العام، والذي أدى إلى طرد مئات آلاف العاملين في قطاع الدولة إلى الشارع. في الصناعة، طبقت سياسة ممنهجة لإخراج الصناعيين ورأس المال التقليدي من سوق العمل وفتح الباب أمام المنتمين للجبهة الإسلامية الحاكمة (المؤتمر الوطني حالياً). فرضت الضرائب والجبايات الرسمية وغير الرسمية التي عانى منها قطاع الصناعة، وانتهى الأمر بفوضى مالية عارمة، وفساد غير مطاق. النتيجة إفلاس بعض كبار الصناعيين، ومن كتبت له النجاة، آثر الاستثمار في إثيوبيا المجاورة وأوغندا، حيث الاستثمار أكثر جاذبية، وبدرجة أقل مصر.
وبالعودة إلى أصل الحكاية، لم يكن ما قاله وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، زلة لسان، أو بتدبير من صحافي مندس لئيم أو كلام استنبط من سياق عام، وهو ما اعتدنا على سماعه كلما انفلتت الكلمات من المسؤولين في السودان. قال الوزير "إن السودان يمكن أن يدرس مسألة التطبيع مع إسرائيل".
تتسق هذه العبارة مع الشكوى الحكومية من تأثيرات الحصار الأميركي. وأكثر من ذلك، تعكس حالة من الإفلاس الذي "دخل العظم"، وفقا للتعبير العامي، والذي بات يبحث عن مخرج ملح وعاجل دونه الكارثة. خطوات السودان الأخيرة من قطع العلاقات مع إيران "الحليفة الموثوقة" على مدى سنوات حكم البشير، والتحول المفاجئ في دفة العلاقات تجاه السعودية والإمارات، تذهب في اتجاه توفير مصادر تمويل لاقتصادٍ يتداعى. ويعضد كلمات غندور وزير الخارجية الأسبق، مصطفى إسماعيل عثمان، الذي ربط بين الاقتصاد "السودان أحد أفقر ثلاثين دولة في العالم" والتطبيع غاية ملحة "من الطبيعي أن ندرس التطبيع مع إسرائيل"، مع التفافه على الفكرة بقوله "حتى يكون موقفنا ثابتاً جداً على أن التطبيع مع إسرائيل فيه مضرّة للسودان". والغريب أن الرد المنقول عن الحكومة الإسرائيلية على "تطلعات" المسؤولين في الخرطوم بأن "السودان دولة تدعم الإرهاب ودولة فاسدة غير جديرة بأن تقيم إسرائيل علاقة معها" قد عجل برد من الخرطوم، لم ينف حديث التطبيع، لكنه كما نقلته صحيفة "آخر لحظة" على لسان مصطفى عثمان "الكلام الذي قيل عن تصريح من وزارة الخارجية الإسرائيلية لرفض التطبيع، أنا حقيقة سألت أكثر من واح، قالوا لي الخبر دا مكذوب مدسوس، واذا كان مكذوب ومدسوس، فما في داعي نحن نستعجل ونرد عليهو".
إنه وضع بائس حقاً أنه جاء يوم "نعجب فيه مما نسمع"، ومن عاصمة الصمود، الخرطوم بالذات.
تُساق هذه المعلومات للتدليل على أن النظم الشمولية التي حكمت السودان، وحينما تستفحل أزماتها الداخلية، الاقتصادية والسياسية، تبحث عن قشة الغريق، فتتعلق بها، ظناً أنها بذلك تكسب رضى الدوائر الفاعلة في العاصمة الأميركية، وخصوصاً المرتبطة باللوبي الإسرائيلي. أكثر من هذا، كتبت في "العربي الجديد" (4/11/ 2015) عمّا أثير في إحدى لجان الحوار الوطني، المستمر الآن، في السودان من مطالب ودعوات إلى الاعتراف بإسرائيل، يسمونها "تأدباً" إقامة تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لكن، يصيبك بالهول ما قاله أحد مقدمي البرامج في قناة الخرطوم الخاصة، وهو يهذي بكلام بعيد جداً عن أكثر الخيالات جموحاً، إننا سنعيش يوماً في عاصمة اللاءات الثلاث، لنسمع من يقول "ما هو العالم العربي ده، كله عنده علاقات مع إسرائيل.. ليه نحن ما نعمل علاقات مع إسرائيل". ويقول "أي حاجة طلبتها أميركا عملناها ليها"، أو قوله "العرب ديل مش عملاء نحن دايرين (عايزين) نبقى عملاء زيهم". هذا الحديث السمج ليس نسيج وحده، فثمة لهاث غريب وتسابق بين المسؤولين السودانيين في الفترة الأخيرة، ورهان بعودة وشيكة للعلاقات مع أميركا. زيارات رسمية وشعبية إلى واشنطن، وأحاديث مبذولة، محورها واحد، هو العلاقة مع أميركا ضرورة مقدمة. هذه الحمى والحرص على عودة العلاقات مع أميركا يمكن فهمها في سياق الأزمة الاقتصادية الحادة التي يمر بها السودان. تجليات هذه الأزمة نلمسها في تصريحات المسؤولين الحائرة في الخرطوم، والتي ترهن كل الأزمات الحالية في أمرين "فقدنا النفط الذي ذهب مع انفصال جنوب السودان" أو "الحصار الأميركي المؤثر". في الحالة الأولى، يغفل المسؤولون أنهم يقرّون بخطأ السياسة التي راهنوا عليها باعتمادهم على النفط الطارئ، مكان أعمدة الاقتصاد الزراعية المجرّبة والراسخة ومصدر الدخل الحقيقي للسودان بلداً زراعياً، وكأن الباب الأميركي لا تدخله النظم الشمولية التي سطت على الحكم في السودان، إلا عبر البوابة الإسرائيلية.
كانت أسباب نميري في ترحيل الفلاشا اقتصادية، واستنفاد النظام كل خياراته، لمعالجة الأزمات الاقتصادية، والتي بدأها بخفض غير مبرر عام 1978 للجنيه السوداني أمام الدولار. وتلك خطوة كارثية، أودت عملياً باقتصاد السودان. والحال اليوم أشبه بالبارحة، بل يعيش أسوأ كارثة اقتصادية، يغوص فيها الاقتصاد السوداني الذي يعاني من عطب كبير في عجلة الإنتاج في أكبر المشاريع الزراعية (الجزيرة والرهد وخشم القربة وغيرها). وعطب كبير يصيب عجلة الصناعة بتوقف العمل في أكثر المصانع ( 60 % من مصانع الخرطوم متوقفة، وفقا لوكالة الأنباء الفرنسية في ديسمبر/كانون أول الماضي) التي آذتها السياسات الحكومية التي ضربت الصناعة السودانية في مقتل. صناعة النسيج التي كانت حتى تاريخ انقلاب الرئيس عمر البشير تعيش أفضل سنواتها أغلقت غالبيتها أبوابها.
الأسباب في ذلك شبيهة بحال كل مرافق الدولة التي قتلتها سياسات التمكين للحركة الإسلامية في قطاع الدولة بالإعفاء للصالح العام، والذي أدى إلى طرد مئات آلاف العاملين في قطاع الدولة إلى الشارع. في الصناعة، طبقت سياسة ممنهجة لإخراج الصناعيين ورأس المال التقليدي من سوق العمل وفتح الباب أمام المنتمين للجبهة الإسلامية الحاكمة (المؤتمر الوطني حالياً). فرضت الضرائب والجبايات الرسمية وغير الرسمية التي عانى منها قطاع الصناعة، وانتهى الأمر بفوضى مالية عارمة، وفساد غير مطاق. النتيجة إفلاس بعض كبار الصناعيين، ومن كتبت له النجاة، آثر الاستثمار في إثيوبيا المجاورة وأوغندا، حيث الاستثمار أكثر جاذبية، وبدرجة أقل مصر.
وبالعودة إلى أصل الحكاية، لم يكن ما قاله وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، زلة لسان، أو بتدبير من صحافي مندس لئيم أو كلام استنبط من سياق عام، وهو ما اعتدنا على سماعه كلما انفلتت الكلمات من المسؤولين في السودان. قال الوزير "إن السودان يمكن أن يدرس مسألة التطبيع مع إسرائيل".
تتسق هذه العبارة مع الشكوى الحكومية من تأثيرات الحصار الأميركي. وأكثر من ذلك، تعكس حالة من الإفلاس الذي "دخل العظم"، وفقا للتعبير العامي، والذي بات يبحث عن مخرج ملح وعاجل دونه الكارثة. خطوات السودان الأخيرة من قطع العلاقات مع إيران "الحليفة الموثوقة" على مدى سنوات حكم البشير، والتحول المفاجئ في دفة العلاقات تجاه السعودية والإمارات، تذهب في اتجاه توفير مصادر تمويل لاقتصادٍ يتداعى. ويعضد كلمات غندور وزير الخارجية الأسبق، مصطفى إسماعيل عثمان، الذي ربط بين الاقتصاد "السودان أحد أفقر ثلاثين دولة في العالم" والتطبيع غاية ملحة "من الطبيعي أن ندرس التطبيع مع إسرائيل"، مع التفافه على الفكرة بقوله "حتى يكون موقفنا ثابتاً جداً على أن التطبيع مع إسرائيل فيه مضرّة للسودان". والغريب أن الرد المنقول عن الحكومة الإسرائيلية على "تطلعات" المسؤولين في الخرطوم بأن "السودان دولة تدعم الإرهاب ودولة فاسدة غير جديرة بأن تقيم إسرائيل علاقة معها" قد عجل برد من الخرطوم، لم ينف حديث التطبيع، لكنه كما نقلته صحيفة "آخر لحظة" على لسان مصطفى عثمان "الكلام الذي قيل عن تصريح من وزارة الخارجية الإسرائيلية لرفض التطبيع، أنا حقيقة سألت أكثر من واح، قالوا لي الخبر دا مكذوب مدسوس، واذا كان مكذوب ومدسوس، فما في داعي نحن نستعجل ونرد عليهو".
إنه وضع بائس حقاً أنه جاء يوم "نعجب فيه مما نسمع"، ومن عاصمة الصمود، الخرطوم بالذات.