لا يزال بائع الفلافل في مكانه، منذ سنين طويلة. قد يظنّ قارئ هذا النص أنّ كاتبته طاعنةٌ في السنّ، إلا أنّني أقصد مطعم الفلافل نفسه، منذ فترة طويلة من حياتي وبائع الفلافل لم يتغيّر من وقتها. لا أذكر المرّة الأولى التي قصدت فيها المطعم. أذكر أنّ والدتي كانت تشتري الفلافل من هناك منذ طفولتي، حين لا تحضّر لنا الطعام في المنزل. فنشتري رؤوس الفلافل المقرمشة ونلتهمها في المنزل مع توابل ومكوّنات كثيرة، ونختصر ذلك أحياناً بشراء السندويشات الجاهزة.
في أولى سنوات المراهقة عندما كنت أستميت ألّا يزداد وزني حفاظاً على رشاقتي، كنت أتجنّب استهلاك أي طعام آخر في كلّ مرّة آكل فيها الفلافل وقت الغداء. فيكون فطوري بضعة أكواب من المياه وأكتفي بعشاء محضّر من الخضار الطازجة.
اختلف الأمر بعد سنوات عدّة، عندما ازداد وزني عنوة فصرت أتوجّه إلى مطعم الفلافل وحدي، بعد انتهاء الدوام المدرسي وبزيّ المدرسة. فألتهم سندويشين كاملين غارقين في الطراطور (الطحينة) الذي ينسكب في فمي فأشعر بسعادة ما بعدها سعادة.
لكن الطراطور الإضافي لم يبق خياري المفضّل فترة طويلة. إذ بتّ في ما بعد أخشى أن يسقط ما فاض منه على ثيابي التي صرت أهتم بها وأنتبه لها أكثر فأكثر، فعدلت عن طلب السندويش مع طراطور إضافي في وقت لاحق. لكني عوّضت عن ذلك بطلب قرص فلافل إضافي في كل سندويش أتناوله، ما رفع منزلة سندويش الفلافل من عادي إلى الـ "إكسترا" وزاد من ثمنه خمسمائة ليرة لبنانية. أمّا الخبز، وفي محاولة إضافية منّي للهروب من الوزن الزائد، فقد صرت أحاول التقليل من استهلاكه، مركزّة حواسي على أقراص الفلافل وما يصاحبها من خضار داخل السندويش.
كلّ هذا، وبائع الفلافل يقف في المكان نفسه خلف الزجاج. ينتظر الإيصال الّذي أسلّمه إياه بعد أن أدفع ثمن السندويش. ينتظر الورقة الصغيرة وطلباتي وذوقي المتغّير عبر السنين، ويحاول حفظه في كلّ مرة: طراطور زيادة، طراطور خفيف، فلافل إكسترا، خبز قليل، الخ... أما هو فلم يتغيّر، ولم يزدد وزنه، ولا اختلفت قصّة شعره ولا مقاس ثيابه ولا ابتسامته ولا نظارتيه. ربما لم يختلف ذوقه في الفلافل أيضاً. كلّ ما تغيّر في هذا المشهد هو ازدياد شعره الأبيض، عند السالفَين تحديداً.
وما زلت حتّى اليوم كلّما قصدت مطعم الفلافل، حاول الرجل عبثاً تذكّر طلبي بدقّة. لكنّه يسعى دوماً بابتسامة وخجل، ثمّ يلفّ السندويش بعناية واهتمام جاعلاً منه السندويش الأشهى على الإطلاق.
اقــرأ أيضاً
في أولى سنوات المراهقة عندما كنت أستميت ألّا يزداد وزني حفاظاً على رشاقتي، كنت أتجنّب استهلاك أي طعام آخر في كلّ مرّة آكل فيها الفلافل وقت الغداء. فيكون فطوري بضعة أكواب من المياه وأكتفي بعشاء محضّر من الخضار الطازجة.
اختلف الأمر بعد سنوات عدّة، عندما ازداد وزني عنوة فصرت أتوجّه إلى مطعم الفلافل وحدي، بعد انتهاء الدوام المدرسي وبزيّ المدرسة. فألتهم سندويشين كاملين غارقين في الطراطور (الطحينة) الذي ينسكب في فمي فأشعر بسعادة ما بعدها سعادة.
لكن الطراطور الإضافي لم يبق خياري المفضّل فترة طويلة. إذ بتّ في ما بعد أخشى أن يسقط ما فاض منه على ثيابي التي صرت أهتم بها وأنتبه لها أكثر فأكثر، فعدلت عن طلب السندويش مع طراطور إضافي في وقت لاحق. لكني عوّضت عن ذلك بطلب قرص فلافل إضافي في كل سندويش أتناوله، ما رفع منزلة سندويش الفلافل من عادي إلى الـ "إكسترا" وزاد من ثمنه خمسمائة ليرة لبنانية. أمّا الخبز، وفي محاولة إضافية منّي للهروب من الوزن الزائد، فقد صرت أحاول التقليل من استهلاكه، مركزّة حواسي على أقراص الفلافل وما يصاحبها من خضار داخل السندويش.
كلّ هذا، وبائع الفلافل يقف في المكان نفسه خلف الزجاج. ينتظر الإيصال الّذي أسلّمه إياه بعد أن أدفع ثمن السندويش. ينتظر الورقة الصغيرة وطلباتي وذوقي المتغّير عبر السنين، ويحاول حفظه في كلّ مرة: طراطور زيادة، طراطور خفيف، فلافل إكسترا، خبز قليل، الخ... أما هو فلم يتغيّر، ولم يزدد وزنه، ولا اختلفت قصّة شعره ولا مقاس ثيابه ولا ابتسامته ولا نظارتيه. ربما لم يختلف ذوقه في الفلافل أيضاً. كلّ ما تغيّر في هذا المشهد هو ازدياد شعره الأبيض، عند السالفَين تحديداً.
وما زلت حتّى اليوم كلّما قصدت مطعم الفلافل، حاول الرجل عبثاً تذكّر طلبي بدقّة. لكنّه يسعى دوماً بابتسامة وخجل، ثمّ يلفّ السندويش بعناية واهتمام جاعلاً منه السندويش الأشهى على الإطلاق.