السكر نبات وخلَّة الواوية

04 ديسمبر 2014
حبات سكر نبات باتت سهلة المنال (Getty)
+ الخط -
إذا تصادف مروري مع مزاجها الهادئ نادتني وأدخلتني. تشير لي بيدها، "اجلسي" فأنصاع مباشرة. تذهب باتجاه المطبخ، الذي تفصله عن البيت حديقة صغيرة، فيسيل لعابُ فمي ومخيلتي إذْ أعلم أن طقساً جميلاً على وشك أن يبدأ. تعود وبيدها صحن حلوى منزلية واليد الثانية مضمومة أصابعها ولن تفتحها قبل أن تأذن هي بذلك. تجلس على الأرض بجانبي وتسألني: "ماذا سنحكي اليوم"؟ لا تنتظر مني جواباً. تبتسم وتردّ منديلها إلى الخلف لتبدأ فصول حكاية جديدة: الزير سالم، عنترة بن شداد، الغولة التي تأكل أولادها... عوالم غامضة كنت أغوص فيها على إيقاع صوتها. لا بدَّ أن استسلامي التام لها كان يعجبها. لها أسلوب مغناطيسيّ في السرد، فهي ملمَّة بأصول فن التشويق ومدركة عشقي للتفاصيل الصغيرة التي تُهمل عادة: شكل مغارة علي بابا، ألوان وموديلات فساتين الأميرات، عدد غرف القصور.

كل هذا السحر كان يدخلني بعد حين في معركة غير متكافئة ضدَّ خدرٍ لذيذ ونعاسٍ لئيم. في هذه اللحظات كانت خالتي، أم السعود، تتدخَّل لمساندتي، تمد لي يدها بعد طول انتظاري، وتدعوني إلى تذوُّق واحدة من حبَّات "السكر نبات"، فأُنتشل بقدرة قادر من تلك الغفوة الغدّارة. أمَّا السكر نبات فهو بونبون أبيض شفَّاف يذوب في الحلق ببطء شديد، وميزته بالنسبة لي كان اسمه وشكله الغريبين: "سكَّر" و"نبات" أي أنَّه يزرع ويقطف. يشبه أحجار الماس الخام، التي تلتمع في روايات الخالة، أي أنَّه جزء من كنز كبير لا تعلن أم السعود عن مكانه السريِّ. لذلك كان دخول عنصر السكر نبات على الخط يمزج أحداث رواية خالتي مع صوَر قصة خيالية أخرى من تأليفي، بطلتها أم السعود شخصياً. تدور أحداثها الأسطورية على أرض تدعى "خلَّة الواوية". 

"خلَّة الواوية" هي قطعة الأرض الأعز على قلب الخالة. هي المهر الذي دُفع لها يوم تزوَّجت. لكنَّ خيالي الممسوس بحكاياتها حوّل أرض الواوية إلى مكان مسحور تحرسه تلك الحيوانات الغريبة، التي تشبه الكلاب البرية. كنت أتخيل خالتي أم السعود ذاهبة قبل الفجر إلى خلَّة الواوية بهدف قطف حبات السكر نبات. هذه المهمة لم تكن سهلة أبداً، لأن الواوية وأولادها الشرسين سيمنعونها من السطو على غذائهم المفضل، لذلك كانت قامتها تتضاعف لتصبح بحجم قامة الغولة، تتصارع مع جماعة الواوية، تهجم على غلَّتهم من السُّكر نبات تسرق حفنة وتهرب مسرعة قبل أن يتلاشى السحر مع شروق الشمس.

هي ساعة أو أكثر بقليل وتنتهي معها الحكاية بالقفلة ذاتها: "هذه حكايتي حكيتها وبقبوعتك (طاقيتك) حطيتها" فأنتبه ليدها تمسِّد رأسي تدعو لي بالخير وتوصيني بالسلام على أمي وجدَّتي. أم السعود رحلت، أخذت معها حكاياتها ومواعيد كثيرة كان يجب أن تجمعنا. لكني ما زلت حتى اليوم، إذا وقع نظري على حبات سكر نبات باتت سهلة المنال من على رفوف السوبرماركات، أتذكرها كساحرة بصناديق فرجة عديدة. بيتها صندوق، فمها صندوق، وكف يدها أحلى صندوق.
دلالات
المساهمون