السقوط الحرّ لـ"الإخوان المسلمين"

22 ديسمبر 2015
+ الخط -
تواصل جماعة الإخوان المسلمين مسلسل سقوطها الحرّ الذي بدأ قبل عامين ونيف، حين خرجت من السلطة بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013 في مصر، ولا تزال الجماعة غارقة في حالة من "التيه" والضياع، بعد فصل رأسها التنظيمي عن بقية الجسد الإخواني الذي لا يستطيع العودة كما كان "صفاً واحداً يعذر بعضه بعضاً".
أزمة "الإخوان" الحالية، والتي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من جهة التلاسن والشجار الإعلامي وتبادل الاتهامات بين الأطراف المتصارعة، ليست سوى مجرد عرض لمرضٍ كبير هو "التعفن التنظيمي" الذي بدأ قبل حوالي عقدين حين سيطر "صقور" الجماعة على مفاصلها بعد تولي المرشد العام الخامس للجماعة، مصطفى مشهور، خلفاً لمحمد حامد أبو النصر، في ما عُرف وقتها بـ"بيعة المقابر". فطوال العقدين الماضيين، أعاد هؤلاء الصقور كل مؤسسات الجماعة المؤثرة، بدءاً من المكاتب الإدارية في المحافظات، وصولاً إلى مجلس الشورى العام ومكتب الإرشاد، لكي يضمنوا السيطرة على "التنظيم" وحركته وموارده. ولم يسمح هؤلاء الصقور بأي حالة من الحراك الداخلي الذاتي، المستند إلى الكفاءة والمؤهلات، وإنما تحكمت قيم البيعة والسمع والطاعة والثقة والولاء في عملية الحراك والترقي التنظيمي. وأحياناً، لعبت المحسوبية والعلاقات الشخصية دوراً مهما في صعود بعضهم، وخروج آخرين وانزوائهم. وقد استفاد هؤلاء الصقور من حالة القمع التي تعرضت لها الجماعة في عهد حسني مبارك، من أجل إحكام سيطرتها على التنظيم، وإقصاء كل من يطالب بالإصلاح والتغيير الداخلي. ولم ينته العقد الفائت حتى أحكم الصقور، أو "حراس المعبد" سيطرتهم على التنظيم، بقيادة "المايسترو" محمود عزت الذي عمل أميناً عاماً للجماعة طيلة تلك الفترة.

وعندما قامت ثورة 25 يناير، انشغل هؤلاء الصقور بحصد المغانم السياسية والتنظيمية وتوزيعها على مؤيديهم ومناصريهم، داخل الحركة، فلم تمر سوى أشهر قليلة، حتى جرت عملية تصعيد لوجوه جديدة، سواء داخل الجماعة أو حزبها "الحرية والعدالة"، جميعها محسوب على التيار التنظيمي، كان من أهمها محمود حسين ومحمود غزلان ورشاد البيومي وعصام الحداد ومحمد عبد الرحمن ومحيي حامد ومصطفى الغنيمي ومحمد وهدان وحسام أبو بكر وغيرهم. كان ولاء هؤلاء، بالأساس، للتنظيم وقيادته أكثر منه للفكرة التي يحملها التنظيم. في حين تم التعاطي مع المخالفين بقدر كبير من التعالي والنزق، ما دفع كثيرين منهم إلى الخروج من الجماعة، ناقماً وساخطاً. كان رهان الصقور أن من شأن حالة "الفوران" السياسي في مصر أن تلفت الأنظار بعيداً عن الأوضاع الداخلية في الجماعة، والتي وصلت إلى مستوى غير مسبوق من التكلس والجمود. وهي الحالة التي بدت واضحةً في مرحلة ما بعد الانقلاب، حين فشلت الجماعة في قراءة حجم الأزمة التي تتعرض لها وتداعياتها المحتملة.
وبدلاً من أن يعترف هؤلاء الصقور بأخطائهم في حق الجماعة وأفرادها، وما أدت إليه قراراتهم المعيبة، سواء خلال إدارة أزمة الثلاثين من يونيو، أو فشلهم الذريع في تقدير تعاطي الدولة مع اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة، من خسائر نفسية وجسدية باهظة للأعضاء، قرّروا الاستمرار في مناصبهم، وممارسة سيطرتهم على التنظيم، بحجة أن الوقت ليس مناسباً للتراجع أو حتى الاعتذار. وقد ظن بعضهم أن الوجوه القديمة التي تسبب في كارثة الانقلاب وضياع الثورة، برعونتهم وسوء حساباتهم، سوف تدفعهم إلى التواري عن الأنظار خجلاً، لكنهم لم يفعلوا.
وبعد الانقلاب وما لحقه من خسائر، واعتقال معظم القيادات وخروج بعضهم من مصر، قامت مجموعة من جيلي الوسط والشباب بإدارة شؤون الجماعة، خصوصاً على مستوى الحراك الميداني، ورعاية أسر المعتقلين والقتلى من "الإخوان". وهو ما لم يعجب مجموعة الصقور التي رأت في ذلك محاولة لتهميشهم وإقصائهم عن قيادة الجماعة، فحاولوا العودة إلى السيطرة على التنظيم، والتصرف وكأن شيئاً لم يحدث في أثناء العامين الماضيين. فبات لدى الجماعة، لأول مرة فى تاريخها، رأسان يتنازعان القيادة والشرعية. وانتقل الانقسام من الرأس إلى الجسد، فرأينا قطاعات ومكاتب إدارية تنحاز لهذا الطرف أو ذاك. وبدا أن هناك هيكلين تنظيميين ومكتبين إعلاميين وقيادتين واستراتيجيتين، يسير كلاهما عكس الآخر. والأنكى أن الصراع الحالي يأتي في وقت يدفع فيه كثيرون من أبناء الجماعة ثمناً باهظاً من أرواحهم وحريتهم، من أجل الحفاظ على الجماعة، في مواجهة موجة الاستئصال التي تواجهها الآن.
على مدار العقد الماضي، تحولت جماعة الإخوان المسلمين إلى كيان بيروقراطي كبير ومتضخم، لا يستطيع الحركة بدون وجود قيادة مركزية توجهه وتدير حركته. لذا، فعندما غابت القيادة دخلت الجماعة في دوامة كبيرة من الصراع والانقسام والتشاحن. وفي ظل رفض تيار الصقور إعطاء فرصة للجيل والقيادة الجديدة، كان على هؤلاء القيام بما يشبه "الانقلاب" الأبيض الداخلي، من أجل الحصول على مساحة من التأثير والنفوذ داخل التنظيم.
وعلى الرغم مما سبق، فإنه من قبيل الاختزال والتبسيط التعاطي مع الأزمة الحالية للجماعة باعتبارها أزمة "تنظيمية" أو "إدارية" فحسب، وإنما هي أزمة فكرية وإيديولوجية، لن تستطيع الجماعة بأجيالها وقياداتها كافة تجاوزها إلا من خلال إعادة النظر في كثير من مقولاتها وسردياتها الكبرى. قبل أن تتحلل "الفكرة" الإخوانية، وتصبح شيئاً من الماضي، وإلى أن يحدث ذلك، سوف تستمر الجماعة في السقوط الحرّ الذي لن يوقفه أحد.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".