ليس سراً أن الملف السوري دخل منذ فترة مرحلة إعادة شرعنة النظام السوري من قبل دول عظمى، مثل فرنسا والولايات المتحدة، ودول إقليمية أخرى، على قاعدة أن العدو يقتصر على "إرهاب داعش والنصرة" ولا يشمل "إرهاب الأسد والروس والإيرانيين" في سورية.
لكن الأخطر اليوم ربما يكون دخول دول كانت تدعي أنها تدعم الثورة السورية بشكل كامل، في دائرة الترويج لـ"نهاية القضية السورية"، وضرورة الاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب التي سيبقى فيها بشار الأسد في الحكم إلى أمد غير محدد. القلق، لا بل الخوف الكبير، من أن "تُطبخ" تسوية شاملة لسورية من خارج أي قرار دولي نص على مرحلة جديدة انتقالية لتغيير النظام، هو شعور عام عند معظم القيمين على المعارضة السورية. وما كان تعليق الرئيس الأسبق للائتلاف الوطني السوري، هادي البحرة، عن "قلق المعارضين السوريين من حل سياسي يتجاوز الهيئات المعارضة"، سوى عينة عن حالة اللايقين التي تصيب المعارضين، ممن يشعرون بتخلٍّ شامل عنهم من قبل دول كانت داعمة للقضية السورية. وقد أسس لقاء وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في الثالث من أغسطس/ آب الحالي، بوفد الهيئة العليا للمفاوضات المعارض، في الرياض، لتحوّل خطير في الموقف السعودي من القضية السورية يصب في مصلحة النظام في المحصلة، ويتبنّى الرؤية الروسية لحل القضية السورية. وتكمن خطورة التحول في الموقف السعودي في احتضان السعودية مقر الهيئة السورية المعارضة المعنية بالتفاوض من أجل الوصول لحل سياسي في سورية، وهي "الهيئة العليا للمفاوضات"، الأمر الذي يطرح تخوفاً جدياً من أن يؤثر هذا التحول على "الهيئة العليا للمفاوضات" وعلى الوفد المفاوض، وذلك بعد أن تتم إعادة هيكلتهما، خلال مؤتمر مزمع عقده في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل في الرياض لهذه الغاية، ما قد ينتج هيئة تفاوضية تتنازل عن سقف قرارات مؤتمر "الرياض 1" الذي أُسست الهيئة على أساسه، وعن بيان "جنيف 1"، بحيث تخفض من سقف مطالبها إلى الدرجة التي لا تمكن المعارضة السورية من تحقيق أي هدف من أهداف الثورة السورية.
وعلم "العربي الجديد" من مصادر من الوفد الذي حضر لقاء الجبير أن الوزير السعودي أعطى توجيهات لوفد الهيئة على شكل "نصائح"، منبهاً إلى أن الموقف الدولي قد تغيّر تجاه القضية السورية، وأن الأولوية قد تحولت إلى محاربة الإرهاب، وأن مصير بشار الأسد لم يعد أولوية لدى الدول الفاعلة في القضية السورية. وطبعاً أبدى الوزير السعودي دعمه لمساعي الهيئة إلى عقد اجتماع في الرياض من أجل إعادة هيكلتها، بما يتوافق مع التوجهات الدولية الجديدة. كذلك عبّر عن مساندته مساعي الهيئة بضم منصتي موسكو والقاهرة إلى الهيئة العليا الجديدة، وحذر الجبير وفد الهيئة من أن الدول العظمى قد تبحث عن حلّ خارج المعارضة، في حال لم تنتج هيئة تتمتع بالمرونة الكافية للتعامل مع هذه المتغيّرات.
كذلك علم "العربي الجديد"، من مصدر مقرب من المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب، أن الجبير أوصل رسالة إلى حجاب، مفادها بأن الروس قد نجحوا في منع إسقاط الأسد، وباتت روسيا الآن العنصر الأقوى في سورية، وبأن الدول الإقليمية الفاعلة في القضية السورية ستضطرّ إلى الموافقة على ما يريده الروس، والذين يميلون إلى بقاء بشار الأسد في السلطة خلال المرحلة الانتقالية. وأشار المصدر إلى أن الجبير ألمح لحجاب بأن مهمة المعارضة السورية والدول الصديقة لها في المرحلة المقبلة ستكون بالعمل على إقناع الولايات المتحدة أن تضع ثقلها لضمان عدم وجود أي دور للأسد في مستقبل سورية بعد المرحلة الانتقالية.
وعلى الرغم من أن المتحدث باسم الهيئة، سالم المسلط، نفى صحة هذه التسريبات، كما نفى وجود دعوة لما يسمى بـ"الرياض 2"، وأن الأمر هو مجرد دعوة لشخصيات سياسية وثورية ومن المجتمع المدني للقاء في الرياض مع الهيئة، والتي ستنظر في أمر توسيع نفسها، وعلى الرغم من تشديد كل من المسلط، في تصريحات صحافية، ورئيس الوفد المفاوض، نصر الحريري، في حوار مع "العربي الجديد"، على أن الهيئة لن تقبل في صفوفها من يوافق على وجود الأسد، إلا أن مصادر من داخل الهيئة أكّدت أن أساس اجتماع "الرياض 2" كان من خلال مبادرة تقدم بها عضو الهيئة، جورج صبرا، منذ نحو ثلاثة أشهر من أجل رفد الهيئة بعناصر جديدة بعد تقلّص أعضائها من 34 عضواً إلى 27 عضواً، بسبب طرد بعض الأعضاء واستقالة بعض آخر، ومن أجل ضم منصتي موسكو والقاهرة إلى الهيئة. إلا أن الوزير السعودي استغل هذه المناسبة من أجل وضع أعضاء الهيئة في صورة ما يجب أن تكون عليه في ما بعد مؤتمر "الرياض 2"، الأمر الذي دفع بالمنسق العام للهيئة، رياض حجاب، للتفكير بالاستقالة، وهو الأمر الذي يبدو أنه تم تأجيله إلى حين استكمال علاجه في الولايات المتحدة.
وأكد مصدر مسؤول في الهيئة العليا للمفاوضات، فضّل عدم ذكر اسمه في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الهيئة على مفترق طرق صعب جداً، وقد شكلت لجنة خاصة من أجل اللقاء بسوريين "ممن يحظون باحترام عام في سورية وخارجها"، من أجل التشاور معهم وأخذ آرائهم بما يمكنها من اتخاذ قرارات في مواجهة التحديات المقبلة المتعلقة بالقضية السورية، محذراً من أن تتم إعادة هيكلة هيئة جديدة للتفاوض تستبعد كل الشخصيات التي لا تزال متمسكة بأهداف الثورة، والشخصيات التي تعتبرها السعودية محسوبة على قطر، ما يحولها إلى شاهد زور على ما يتم التوافق عليه، في ظل تهميش دور الائتلاف الوطني. وبيّن المصدر أن الهيئة العليا للمفاوضات هي بالأساس جسم غير متماسك، كونها تضم أطيافاً وتيارات مختلفة التوجهات، مثل هيئة التنسيق، والتي تأتي من دمشق لحضور الاجتماعات، والعسكريين الذين يتبع قسم منهم لإملاءات دول معينة داعمة لهم، بالإضافة إلى الائتلاف الوطني، موضحاً أن الهيئة شهدت تراجعاً في أدائها خلال السنة الماضية بسبب التدخلات الدولية، خصوصاً المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، والذي يحاول تطبيق الأجندة الروسية. وأضاف المصدر "لقد بدأ التراجع منذ رسالة دي ميستورا الخطية للهيئة، والتي اشترط فيها وضع ممثلين عن منصتي القاهرة وموسكو ضمن الوفد المفاوض، والذي لم توافق عليه المنصتان على الرغم من استجابة الهيئة لهذا المطلب، لتبدأ عملية الاستهتار بالهيئة ووفدها المفاوض خلال مؤتمر جنيف الأخير الذي حدده دي ميستورا بأربعة أيام فقط، ومن دون جدول أعمال، متعاملاً مع المفاوضات وكأنه ذاهب إلى مقهى"، حسب وصفه. وتابع "قدمنا العام الماضي 14 وثيقة، والنظام لم يقدم أي شيء، وكان يتعامل مع موضوع المفاوضات بطريقة إضاعة الوقت وعدم الالتزام".
ولفت المصدر إلى أن الهيئة العليا للمفاوضات شهدت عدم انسجام بينها وبين آخر وفد مفاوض تم تشكيله من قبل الهيئة العليا، من دون أن يكون الوفد منبثقاً من الهيئة العليا. ويعتبر بعضهم أن الوفد الحالي قدّم تنازلات خلال الاجتماعات التقنية التي اجتمع فيها مع منصتي القاهرة وموسكو في جنيف، من خلال التوافق مع هاتين المنصتين على وثيقة "رأي مشترك حول خلاصات الوسيط الدولي"، ووافق فيها على عبارات غامضة أدخلها دي ميستورا ضمن هذه الوثيقة كاستبدال "هيئة حكم انتقالية لها صلاحيات تنفيذية كاملة" بـ"هيئة تحل محل ترتيبات الحكم الحالية"، الأمر الذي قد يفسح المجال لتفسيرها بإنتاج حكومة يعيد ترتيبها النظام. كذلك وافق وفد الهيئة العليا للمفاوضات ومنصة موسكو ومنصة القاهرة على أن هيئة الحكم الانتقالي "يمكن" أن تضم بعضاً من المعارضة ومن النظام ومن المستقلين و"من جهات أخرى"، من دون تحديد من هي تلك الجهات الأخرى، ومن دون تحديد نسبة كل طرف. وأوضح المصدر أن عملية التواصل مع كل من منصتي القاهرة وموسكو تظهر أن هناك تقارباً بين رؤية الهيئة ورؤية منصة القاهرة، إلا أن هناك اختلافاً كبيراً مع منصة موسكو. وبيّن أن الهيئة العليا للمفاوضات لم توافق حتى الآن على الوثائق التي قدمها الوفد المفاوض، لكنه يخشى من اعتمادها في حال لم يتخذ موقف حاسم منها قبل تشكيل جسم جديد يقبل بها.
في المقابل، يشهد الموقف التركي مزيداً من التراجع إثر إقصاء أنقرة عن دور الضامن في اتفاقيات تخفيف التصعيد، ما يرجّح أن تبحث عن دور لها في محافظة إدلب كضامن لآخر مناطق تخفيف التصعيد، والذي يجب أن تسبقه عملية لاجتثاث "هيئة تحرير الشام"، الأمر الذي يزيد من تعقيد الموقف التركي، وهو الأمر الذي ينعكس مزيداً من التهميش في دور الائتلاف الوطني الذي يعمل من تركيا. ويبدو أن المعارضة السورية، وسط التدخلات الدولية الكبيرة، وحالة الضعف التي تشهدها، ميدانياً وسياسياً، ستكون أمام حلين، إما أن ترضخ للضغوطات الدولية وتنتج جسماً يقبل ببقاء بشار الأسد ضمن المرحلة الانتقالية، وأن تقبل بالشراكة مع منصة موسكو وإشراك حزب الاتحاد الديمقراطي الانفصالي، واللذين تتطابق طروحاتهما مع طروحات روسيا، وإما أن تتمسك بالثوابت التي قامت عليها، وتشكل عامل ضغط على الجهات الدولية أساسه الجمهور المعارض المتمسك بأهداف الثورة.