16 نوفمبر 2024
السطوة الدموية على العراقيين
بين الاحتجاجات التي شهدها العراق منذ بدء موجة الربيع العربي، تميزت الحلقة المستجدة أخيرا منها بردٍ دموي ساحق عليها، أوقع زهاء 110 ضحايا وإصابة نحو ستة آلاف، مع اعتقال آلاف أيضا، وذلك جنباً إلى جنب مع تصريحات رسمية مُخاتلة تُداهن المحتجين، وتُثني على موقفهم المناهض للفساد، مع وعودٍ بالتحقيق في عمليات استهداف الشبان الثائرين، في وقتٍ كان يحظر فيه التجول ويتم قطع الإنترنت.
ويتساءل المرء عن دواعي التصعيد الأمني العالي الوتيرة، وعلى الرغم من أن التذرع بمكافحة الإرهاب ما كان ممكناً. كما يستحق التساؤل عن دوافع الغضب المتأجج في صفوف المحتجين. وفي محاولة العثور على إجابة، تمكن الإشارة إلى طبيعة الاحتجاج، وإلى الرسائل التي بثها المحتجون، فهذه الموجة العارمة من النقمة الشديدة كانت تتجه إلى تحميل النظام، بمختلف مكوناته العليا والنافذة، مسؤولية الفساد والبطالة، وتردّي الخدمات والإفقار المتمادي، مع ربط الواقع بالنفوذ الإيراني الهائل والمتشعب في بلد الرشيد، وما رافق ذلك من استهداف المحتجين مقرّات مليشيات وأحزاب مسلحة. فيما تسابق زعماء لتلك المليشيات على وصم الاحتجاجات بأنها "تدبير أميركي وإسرائيلي"، وهو نعت ما انفكّ المحور الإيراني في المنطقة يطلقه بصورة أوتوماتيكية وعاجلة على كل معترض ومعارض وناقم وناقد في إيران ذاتها، وفي دول النفوذ في اليمن ولبنان وسورية والعراق، من أجل شيطنة أي معارضة، ولتسويغ أشرس أشكال القمع ضدها، ولحجب صورة الاختلالات الداخلية.
وقد استهول الحكم القائم في بغداد أن المحتجين يجمعون أطيافاً شتى، وبغير لون طائفي غالب
على الاحتجاجات، وهو ما اعتبره مهندسو السحق الدموي للانتفاضة يدق ناقوس خطر يقظة الوطنية العراقية الجامعة. وقد جاءت الشرارة مع تنحية الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي من موقعه قائدا لجهاز مكافحة الإرهاب، في 29 سبتمبر/ أيلول الماضي، وبغير أسبابٍ موجبةٍ تذكر، وهو قرار فهمه العراقيون موحى به من "الأخ الأكبر" في إطار الضغط على المؤسسة العسكرية التي يُراد لـ"الحشد الشعبي" أن يكون نظيراً لها، ومتفوقاً عليها، وكما وضع حزب الله في لبنان. وبموازاة ذلك، تجدّد السخط الشعبي العابر للطوائف والمناطق ضد سياسات الإفقار والاستتباع التي ما فتئت الحكومات المتعاقبة تنتهجها، فإذا ما طرأ انخفاضٌ ما على منسوب هذه السياسات، ومراعاة للجمهور هنا وهناك، فإن المليشيات المسلحة تستكمل نصاب الإفقار والاستتباع عبر الترويع بمختلف الأشكال، بما فيه استباحة الأمن الفردي وحرمة البيوت، وإقامة اقتصاد موازٍ تستفيد منه حفنة من أمراء المليشيات ومن يدور في فلكها.
وكان لافتاً أن الأسلوب الإيراني في قمع احتجاجات الداخل في بلاد فارس، قد اتبع في بلد الرافدين مرفوقاً بمنع التجول وحظر الإنترنت، والاندساس الكثيف في صفوف المسيرات، وخطف المتظاهرين، واستهداف من لم يُخطف بالقتل، أو التقاط صور للمحتجين لمطاردتهم لاحقاً، مع أحاديث متواترة عن وصول قوات إيرانية خاصة، كي تقوم بـ"واجبها" في تكريس السطوة المعلومة، ولضمان إدامة حال البؤس العام على العراقيين في وطنهم الذي يعُدّ من أغنى البلدان في ثرواته الطبيعية والبشرية، وكي يبقى ملايين العراقيين يلهثون من أجل تأمين أبسط حاجياتهم الأساسية.
وقد وجدت الاحتجاجات سنداً لها من المرجعية الشيعية (علي السيستاني)، كما في مرّات سابقة، حيث دان المرجع الاعتداء على المحتجين، الأمر الذي جعل ساسة نافذين يبتعدون شيئا فشيئا، وأكثر فأكثر، عن هذه المرجعية، والتلميح والتصريح إلى أن مرجعيتهم خارج الحدود، وفي مدينة قم، وليس في النجف أو كربلاء. فيما قام مقتدى الصدر، على الرغم من تقلباته، بالمشاغبة على الحكومة وتحدّيها، داعيا إلى انتخابات مبكرة بإشراف دولي، وهو ما تتفاداه قوى الأمر الواقع التي تحرص على إطفاء أي اهتمام خارجي بالوضع، مخافة أن يؤدي ذلك إلى تقليص الوجود الإيراني، أو حتى انكشاف مظاهره العديدة على الملأ.
وإذ طويت، خلال فترة قصيرة تناهز أسبوعاً، صفحة هذه الانتفاضة بصورة دامية ومروّعة، فإن
أسباب النقمة تظل قائمة وتشتد، مع انحسار فرص التوظيف الطائفي وبروز تهافته، وإن كانت مخاطره تظل ماثلة، ومع إدراك أن السياسات المتبعة تستنزف الثروات وتبدّدها، فإن سائر العراقيين يُضارون منها، إذ تهدّد حاضر الأجيال الجديدة ومستقبلها.. ومؤسف، وفي ظل الوضع العربي المتهافت، أن العراقيين، شأن شعوب شقيقة لهم، باتوا متروكين بغير سند سياسي خارجي يتعدّى المواقف اللفظية، فيما يتعرّض للاستهداف كل طرفٍ عراقيٍّ ينادي باستعادة السيادة والاستقلال، وإنهاض الدولة الوطنية، وتعزيز المؤسسة العسكرية، وإنفاذ حكم القانون على الجميع. ولم يعد أمام العراقيين من فرصةٍ لرفع الصوت سوى الشبكة العنكبوتية ومنصّات التواصل، في حال استمرار هذه الخدمة.. إذ وعلى الطريقة الإيرانية، تتم محاولات الاستحواذ على هذه الخدمة، من أجل جعل صلة العراقيين بالعالم خارج التغطية.
وفي هذه الأثناء، يرقب العراقيون بتشكّك مآلات التحقيق في جرائم القتل بدم بارد التي استهدفت المحتجين، وحيث التزمت رئاستا الجمهورية والحكومة بمتابعتها، بل أوضح رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، أن تعليماتٍ مشدّدة صدرت إلى قوات الأمن بالامتناع عن إطلاق الرصاص الحي على المحتجين، ولكن هذا الرصاص ظل يتهاطل على الشبان المتظاهرين من مصادر يعلمونها، لكن كثيرين منهم رهن الاعتقال، عِوضَ أن يكونوا شهوداً على جريمة إغراق الشوارع بالدماء.
وقد استهول الحكم القائم في بغداد أن المحتجين يجمعون أطيافاً شتى، وبغير لون طائفي غالب
وكان لافتاً أن الأسلوب الإيراني في قمع احتجاجات الداخل في بلاد فارس، قد اتبع في بلد الرافدين مرفوقاً بمنع التجول وحظر الإنترنت، والاندساس الكثيف في صفوف المسيرات، وخطف المتظاهرين، واستهداف من لم يُخطف بالقتل، أو التقاط صور للمحتجين لمطاردتهم لاحقاً، مع أحاديث متواترة عن وصول قوات إيرانية خاصة، كي تقوم بـ"واجبها" في تكريس السطوة المعلومة، ولضمان إدامة حال البؤس العام على العراقيين في وطنهم الذي يعُدّ من أغنى البلدان في ثرواته الطبيعية والبشرية، وكي يبقى ملايين العراقيين يلهثون من أجل تأمين أبسط حاجياتهم الأساسية.
وقد وجدت الاحتجاجات سنداً لها من المرجعية الشيعية (علي السيستاني)، كما في مرّات سابقة، حيث دان المرجع الاعتداء على المحتجين، الأمر الذي جعل ساسة نافذين يبتعدون شيئا فشيئا، وأكثر فأكثر، عن هذه المرجعية، والتلميح والتصريح إلى أن مرجعيتهم خارج الحدود، وفي مدينة قم، وليس في النجف أو كربلاء. فيما قام مقتدى الصدر، على الرغم من تقلباته، بالمشاغبة على الحكومة وتحدّيها، داعيا إلى انتخابات مبكرة بإشراف دولي، وهو ما تتفاداه قوى الأمر الواقع التي تحرص على إطفاء أي اهتمام خارجي بالوضع، مخافة أن يؤدي ذلك إلى تقليص الوجود الإيراني، أو حتى انكشاف مظاهره العديدة على الملأ.
وإذ طويت، خلال فترة قصيرة تناهز أسبوعاً، صفحة هذه الانتفاضة بصورة دامية ومروّعة، فإن
وفي هذه الأثناء، يرقب العراقيون بتشكّك مآلات التحقيق في جرائم القتل بدم بارد التي استهدفت المحتجين، وحيث التزمت رئاستا الجمهورية والحكومة بمتابعتها، بل أوضح رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، أن تعليماتٍ مشدّدة صدرت إلى قوات الأمن بالامتناع عن إطلاق الرصاص الحي على المحتجين، ولكن هذا الرصاص ظل يتهاطل على الشبان المتظاهرين من مصادر يعلمونها، لكن كثيرين منهم رهن الاعتقال، عِوضَ أن يكونوا شهوداً على جريمة إغراق الشوارع بالدماء.