لا يتعلق الأمر بنساء قد فُتنّ بسحر يوسف، وقطعن أيديهن، طلباً له، فأبى، إنما بحياة أردن فرضها على الفتى الإبراهيمي، وهو ابن من أبى أن يسلم عقله لخرافات قومه، أبى أن يطمئن قبل أن يرى بعينيه كيف يحيي الله الموتى، كان آمن، فكان هجران الزوج والرضيع أحب إليه، كان ذبح الابن، على ما ينطوي عليه من آلام أحب إليه، لم يكن خوفاً من عذاب، كان فهماً، واحتراماً للذات التي آمنت، عرفت ربَّها، فعلم صاحبها أن حياته ونسكه ومحياه ومماته، أولى بهم أن يكونوا لله رب العالمين، كان اختياراً، قبل أن يكون امتثالاً.
يوسف كذلك، اختار أن يكون نفسه، لا فتى امرأة العزيز وصواحبها، أن يكون يوسف وآله، لم يكن السجن تضحية، كان ثمناً!
كم يوسف في سجون مصر الآن؟ هم، على كثرتهم، قليل، الناس اختاروا مطاردة خبزهم، وظل الحوائط، أما آل يوسف فقد اختاروا أن تطاردهم الحياة، فيما لا يبحثون هم إلا عن أنفسهم. في البدء كان السجن، ثم الحضارة، فالانحدار، فالإفاقة، مسيحية، وإسلام، صعود، علو، هبوط، فوران، احتلال، فاحتلال، كل شيء يأتي، يروح، أما السجن فباق، أنت الآن في مصر!
"ممنوع من السفر/ ممنوع من الغنا/ ممنوع من الكلام/ ممنوع من الاشتياق/ ممنوع من الاستياء/ ممنوع من الابتسام/ وكل يوم في حبك/ تزيد الممنوعات/ وكل يوم باحبك/ أكتر من اللي فات". أبيات الشاعر العظيم أحمد فؤاد نجم لم تغن عن المسجونين شيئاً، بالعكس، لعلها شكلت وجدان الطغاة أكثر من المظلومين، فهموا أن عليهم أن يكملوا رسالتهم في اضطهادنا، كي نظل دائماً نغني للممنوعات، وتستمر الحياة!
النظام في مصر الآن يمنع عن المسجونين الكتب، غير مسموح باصطحاب معلبات في الزيارات، ممنوع العصير، المقرمشات، التونة، الأدهى: ممنوع الفراخ واللحم، أرز وخضروات فقط، ممنوع البطاطين، المراتب، الملاءات، المخدات، حق السجين "البورش"، شاباً كان أو كهلاً فوق السبعين صحيحاً، أم مريضاً بفقرات الظهر، يوشك أن يموت.. لا يعنيهم.
كلما سألت قادماً من زيارات معتقلات مصر، أخبرني أنهم يفعلون بهم كل شيء، وأي شيء، لعلهم يتصالحون، يشترون خروجهم من السجن بدماء من سبقوهم، والرد دائماً على اختلاف الأعمار، من الـ 16 إلى الـ 80: السجن أحب إلي...!
كثيراً ما أسأل نفسي، أينا المسجون؟ نحن أم هم؟ من أدركوه أم من هددوه فصار ينتظر دقاتهم على أبوابه في كل سطر، ينام وقد أعد حقيبة الرحيل الذي لا يريد أن يعرف له أول ولا يملك أن يعرف له آخر، من هنا إلى السجن أم إلى القبر؟ يأمر أهله أن يناموا بكامل ثيابهم، ربما يقتحمون، يخشى على أطفاله فيسعهم فراشه، دون فراشهم، من يدري، من بات الليلة في حضن أبيه، أين يبيت غداً؟
أينا المسجون؟ المستسلم لمآلات الأحوال، لا يملك من أمره شيئاً سوى المزيد من "الفرجة"، واتهام الآخرين، والسفسطة، وطرح الأسئلة الخاطئة عن عمد مع سبق الاستهتار، والتململ، أم المستسلم منذ البداية لكل شيء؟!
كلنا مسجون، سُجنّا يوم سجنوا الإخواني الأول، ارتبكت مشاعرنا بين الرضا المهزوم، والرفض المكتوم، سكتنا حينا، وبررنا أحياناً، ذلك لأن سجن الإخوان، كان أحب إلينا، نحن الذين نظن أننا لم نسجن بعد.
مصر الآن سجن كبير، يوشك أن يبتلع فضاء لم يعد للحرية، صار منافساً في ظلاميته، وتسممه، وغثيانه، لزنازين الطغاة في طرة والعقرب شديد الحراسة، وما لا نعلم من قبور الأحياء!
أقول لزوجتي، لو سجنت فأخبري الأولاد أن "بابا" على سفر، وسواء عدت، أو لم أعد، فاعلمي أننا عشنا، وشفنا، وتركنا ما يستحق الحكاية، واعلمي أن كل شيء كان اختيارا، وأنهم لم ينجحوا يوماً، ولا دقيقة واحدة في أن يسجنوا اختياراتنا، واعلمي، وبلغي العيال عني، أن السجن، كان ولم يزل، أحب إلي.
(مصر)