12 مارس 2017
السبسي وترامب.. والخطاب السياسي الجديد
كان خطاب الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، يوم 11 مايو/ أيار الجاري، كما استشرف له نور الدين بن تيشة، "خطابا تاريخيا" يشي بتغير حاد في مسار تونس/ الانتقال الديمقراطي. وعلى خلاف عديدين ممن علقوا على الخطاب وحللوه وعقبوا عليه، ليس المقصود هنا مضامينه على طرافتها، بل بالأساس طبيعة الخطاب، وشكله، واللغة المستعملة فيه. ولئن عرف الباجي، منذ 2011، بهذا الطابع المخصوص من الخطابة الذي يذكر بالحبيب بورقيبة، ويعتمد على الدارجة التونسية والأمثال الشعبية، ويقترب أكثر من لغة عامة الشعب، إلا أن شيئا جديدا ملاحظٌ في خطابه هذا، ربما ليس ممكنا إدراكه، إلا بمقارنته مع ما يحصل في الخطاب السياسي في العالم.
كانت مقدمة الخطاب أول ما يشدّ الآذان والأبصار، وقد افتتحها الباجي بـ"إن الحق كان زهوقا". وعلى طرافة هذا الخطأ، وفي الحقيقة فداحته، إلا أنه ليس مربط الفرس، بقدر التقنيات الخطابية التي عنيت من استعمال النص المقدس، ودلالته داخل البنية الحجاجية لخطاب السبسي. ويعرف المستمع إلى بقية الخطاب أن هذه المقدمة مركزيةٌ، لإثبات شرعية ما للقرارات اللاحقة لها. ويذكّر هذا الاستعمال باستعمال بورقيبة آية قرآنية، عندما خطب في الشعب التونسي لإعلان الرئاسة مدى الحياة. وهذا ليس غريباً عن الاستعمال السياسي للنص المقدّس، ولكن الاختيار المحدد للآيات المستعملة وظرف تلاوتها وما تلاها يأخذ النص إلى أبعاد مختلفة.
يشد الانتباه في أثناء الخطاب تكرار السبسي لازمة "أنا أعرف". وهي لازمةٌ سبقت أي حجةٍ أراد أن يبرّر بها موقفا أو قرارا جديدا، أو أن يدحض بها شرعية الاحتجاجات في تطاوين، أو شرعية الاحتجاج على مشروع قانون المصالحة. وبقدر ما تذكّرنا بجملة زين العابدين بن علي "أنا فهمتكم"، تذكّرنا بجملة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فهو كذلك دائما يعرف. "أنا نقرا جميع البيانات، أنا نعرف تطاوين، أنا نعرف الإدارة، أنا نعرف... ما ينجم حتى واحد يكلمني لأني نعرف..."، وجمل كثيرة شبيهة تكرّرت في الخطاب.
المثير للاهتمام أن هذه المعرفة الكبيرة التي للرئيس تقف على حد كبير من الجهل كذلك، فهو يعرف تطاوين وقبائلها وشيوخها، ويعرف الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدهور لأهاليها، ولكنه، في الوقت نفسه، يرفض احتجاجهم "اللاشرعي"، بإيقاف إنتاج النفط، للمطالبة بالتشغيل والتقسيم العادل للثروة. كما أنه يعرف الإدارة وأهميتها في تونس، ولكنه لا يعرف أسباب
العلاقة المأزومة بين الإدارة والمستثمرين! لكن، بغض النظر عن ذلك، فإن هذا الإصرار على إثبات معرفةٍ ما تفوق ما لدى بقية الحاضرين والمتفرجين غريب، غير أنه ينتمي، بشكل دقيق، إلى نوعٍ جديد من الخطاب السياسي، يقوم على إثبات شرعيةٍ ما للوجود، أساسها معرفةٌ ما، وإن كانت مغلوطةً ومنافية للوقائع والبيانات. ويؤكد هذا الهوس المرعب، في الحقيقة، أن الرئيس على معرفةٍ، وإن كانت متناقضة وخاطئة، وهي سمة مشتركة في طبيعة الخطاب السياسي الجديد من ترامب إلى السبسي.
ترتبط هذه المعرفة المطلقة واللامحدودة (على زيفها)، برغبةٍ خطابيةٍ جامحة في الضبط، فقد قام خطاب السبسي على نبرةٍ أبويةٍ ذكورية مركزة، نجدها متناثرةً هنا وهناك، كلما وجه الكلام مباشرةً إلى الحاضرين من المساندين والمعارضين، فتجده ينبههم بلهجةٍ أبوية: "لا تعوّلوا علي هذه المرة.. لن أوافق على ذلك الآن.. يجب أن تتوقفوا.. أنبهكم.. أنا قلت لكم.. قلت لفلان وهو هنا أمامي..". تأخذ نزعة التعالي الأبوي هذه شرعيتها من الصورة التي رسمها السبسي لنفسه منذ الحملة الانتخابية، والتي تقوم على عامل السن، فهو "أبٌ لجميع التونسيين"، بالإضافة إلى "الخبرة السياسية"، والعلاقات مع جميع الأطراف الخارجية، وغيرها.
قصصٌ بنيت من خلالها صورة السبسي الرئيس/ الشيخ، بكل ما تمثله صورة الشيخوخة من حكمة ورصانة وخبرة، وقد تم تكثيف مختلف هذه العناصر في الخطاب، لتؤدي إلى نصٍّ فيه الكثير من العجرفة على مستوى الصوت، بقدر ما فيه من ممارسةٍ للقوة والسلطة. وتظهر هذه الصورة مجدّدا، عندما يتحدث السبسي عن تجاربه الخاصة، وعن حكاياته، بغض النظر عن مدى علاقتها بالسياق، أو عندما يبعث رسائل ساخرة من منافسيه، أو يذكر أسماءهم أو يُشركهم في حكاياتٍ، كان يلعب في أغلبها دور الناصح أو العارف والمقتدر. نجد هذه السمة الجديدة في الخطاب السياسي هنا وهناك في خطب ترامب وكثيرين غيره، تصنع نوعا من الاستحالة الخطابية، يصبح معها الخطاب بنيةً حجاجيةً من دون أي نوعٍ من المضمون (وإن وجد فليس لديه أية علاقة بالبنية ذاتها)، لا بنية حجاجية من أجل مضمون سياسي.
لم يكن خطاب الرئيس الباجي السبسي نصا فقط، لكنه كان صورة أيضا، ولعل الصورة كانت الأقدر على بيان ما نقصده بالخطاب السياسي الجديد. إذ لفّت الكاميرا على الحاضرين، محاولة أن تقبض، في كل مرة، على من يقصدهم السبسي بكلامه، فكانت توجه، في كل مرة، إلى المعنيين بالاتهام أو النصح أو الاختلاف، حتى لو لم يعلن عنهم الخطاب مباشرةً. كما كانت
توجّه إلى كل من يوجّه إليه السبسي الخطاب، للكشف عن ردة فعله المباشرة، وكان أغلبهم يحاول الحفاظ على وجه غير مقروء. ذكرنا هذا التعامل البافلوفي الارتدادي للموقف السياسي بما نشاهده في أثناء توزيع جوائز الأوسكار أو البافتا، عندما تكون الكاميرا مدارةً وفق تخطيط مسبق للبرنامج، ووفق ترتيبٍ معين لذكر الأسماء. وذكّرنا السياسيون الحاضرون بالممثلين والممثلات الذين يصطنعون الفرح أو على الأقل الهدوء، عندما يعلن عن اسم آخرَ فائزاً.
لحظة واحدة كانت مربكة وشديدة التأثير على مستوى التلقي، تلك التي أعلن فيها السبسي قرار عسكرة مناطق الإنتاج النفطي التونسية. مرّت الكاميرا على الحاضرين من قيادات الجيش التونسي الحاضرين، بالزي العسكري ومجموعة من القلائد والشرائط تزيّن أكتافهم، وأطلق السبسي هذا الكلمات: "الدولة مطالبةٌ بحماية موارد الشعب التونسي.. من هنا فصاعدا، الجيش التونسي يحمي موارد تونس.. التعامل مع الجيش التونسي صعيب أنا أنبهكم". لا نجد لغةً تعبر عن تلك الصورة غير "الإرهاب"، إرهاب الدولة، عندما يستخدم القائد الأعلى للقوات المسلحة هذا النمط من الخطاب اللغوي والصوري، في لهجة تهديدٍ واضحة للشعب، تذكّره بحالة الطوارئ التي تسمح للجيش بالإطلاق المباشر للنار، من دون انتظار أوامر أو تنبيه للمواطنين.
تظهر، من جديد، لنا صورة بن علي، وهو يصرخ في آخر خطابٍ له "سوف يحاسبون"، ولكن في الحقيقة، يتجاوز خطاب السبسي خطاب بن علي، نظرا لعامل الدقة، دقة اختيار من سيحاسب وكيف. هذه الصورة/ النص التي وضع من خلالها السبسي الجيش التونسي، في مقابل أبناء البلد، صورة جديدة من حيث فعاليتها السلطوية وتركيبها الخطابي. لعلها تعلن عهدا جديدا على مستوى فعالية الخطاب السياسي في العالم. خطابٌ يقوم على التهديد المباشر، والعنف المباشر، والسلطة المباشرة باعتبارها مكوّنات بنيوية، لتصبح مثلا الدعوة إلى طرد أحد الحاضرين من المعارضين أو ضربه أمرا عاديا ومقبولا (كما حصل في حملات انتخابية لترامب)، أو تهديد شعبٍ كامل، بقدرة الجيش على القتل، أمرا شرعيا.
هذا النوع من اللامعقولية absurdity، ومن الفوضى الكلية التي لا منطق لها، أصبحت السمات المركزية للخطاب السياسي المدار، وخطاب السبسي نموذج مصغّر منها. لعله يعكس، كما يقول بعضهم، منعرجا في المسار الديمقراطي التونسي، نعود فيه إلى ديكتاتورية مقنعة، ولعله يأخذنا إلى مساحاتٍ أسوأ بكثير، تعلن فيها الدولة عدم قدرتها على أداء مهامها، كما عبر عن ذلك السبسي في قوله: "الدولة لا تستطيع أن تعطي شغلا الآن، ولا تستطيع أن تقوم بالتنمية"، وتسلمها كليا، كما تفعل ذلك الآن بشكل كبير، إلى قطاع المال والاستثمار، ويتم بذلك محق ما تبقى من الوطن.
كانت مقدمة الخطاب أول ما يشدّ الآذان والأبصار، وقد افتتحها الباجي بـ"إن الحق كان زهوقا". وعلى طرافة هذا الخطأ، وفي الحقيقة فداحته، إلا أنه ليس مربط الفرس، بقدر التقنيات الخطابية التي عنيت من استعمال النص المقدس، ودلالته داخل البنية الحجاجية لخطاب السبسي. ويعرف المستمع إلى بقية الخطاب أن هذه المقدمة مركزيةٌ، لإثبات شرعية ما للقرارات اللاحقة لها. ويذكّر هذا الاستعمال باستعمال بورقيبة آية قرآنية، عندما خطب في الشعب التونسي لإعلان الرئاسة مدى الحياة. وهذا ليس غريباً عن الاستعمال السياسي للنص المقدّس، ولكن الاختيار المحدد للآيات المستعملة وظرف تلاوتها وما تلاها يأخذ النص إلى أبعاد مختلفة.
يشد الانتباه في أثناء الخطاب تكرار السبسي لازمة "أنا أعرف". وهي لازمةٌ سبقت أي حجةٍ أراد أن يبرّر بها موقفا أو قرارا جديدا، أو أن يدحض بها شرعية الاحتجاجات في تطاوين، أو شرعية الاحتجاج على مشروع قانون المصالحة. وبقدر ما تذكّرنا بجملة زين العابدين بن علي "أنا فهمتكم"، تذكّرنا بجملة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فهو كذلك دائما يعرف. "أنا نقرا جميع البيانات، أنا نعرف تطاوين، أنا نعرف الإدارة، أنا نعرف... ما ينجم حتى واحد يكلمني لأني نعرف..."، وجمل كثيرة شبيهة تكرّرت في الخطاب.
المثير للاهتمام أن هذه المعرفة الكبيرة التي للرئيس تقف على حد كبير من الجهل كذلك، فهو يعرف تطاوين وقبائلها وشيوخها، ويعرف الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدهور لأهاليها، ولكنه، في الوقت نفسه، يرفض احتجاجهم "اللاشرعي"، بإيقاف إنتاج النفط، للمطالبة بالتشغيل والتقسيم العادل للثروة. كما أنه يعرف الإدارة وأهميتها في تونس، ولكنه لا يعرف أسباب
ترتبط هذه المعرفة المطلقة واللامحدودة (على زيفها)، برغبةٍ خطابيةٍ جامحة في الضبط، فقد قام خطاب السبسي على نبرةٍ أبويةٍ ذكورية مركزة، نجدها متناثرةً هنا وهناك، كلما وجه الكلام مباشرةً إلى الحاضرين من المساندين والمعارضين، فتجده ينبههم بلهجةٍ أبوية: "لا تعوّلوا علي هذه المرة.. لن أوافق على ذلك الآن.. يجب أن تتوقفوا.. أنبهكم.. أنا قلت لكم.. قلت لفلان وهو هنا أمامي..". تأخذ نزعة التعالي الأبوي هذه شرعيتها من الصورة التي رسمها السبسي لنفسه منذ الحملة الانتخابية، والتي تقوم على عامل السن، فهو "أبٌ لجميع التونسيين"، بالإضافة إلى "الخبرة السياسية"، والعلاقات مع جميع الأطراف الخارجية، وغيرها.
قصصٌ بنيت من خلالها صورة السبسي الرئيس/ الشيخ، بكل ما تمثله صورة الشيخوخة من حكمة ورصانة وخبرة، وقد تم تكثيف مختلف هذه العناصر في الخطاب، لتؤدي إلى نصٍّ فيه الكثير من العجرفة على مستوى الصوت، بقدر ما فيه من ممارسةٍ للقوة والسلطة. وتظهر هذه الصورة مجدّدا، عندما يتحدث السبسي عن تجاربه الخاصة، وعن حكاياته، بغض النظر عن مدى علاقتها بالسياق، أو عندما يبعث رسائل ساخرة من منافسيه، أو يذكر أسماءهم أو يُشركهم في حكاياتٍ، كان يلعب في أغلبها دور الناصح أو العارف والمقتدر. نجد هذه السمة الجديدة في الخطاب السياسي هنا وهناك في خطب ترامب وكثيرين غيره، تصنع نوعا من الاستحالة الخطابية، يصبح معها الخطاب بنيةً حجاجيةً من دون أي نوعٍ من المضمون (وإن وجد فليس لديه أية علاقة بالبنية ذاتها)، لا بنية حجاجية من أجل مضمون سياسي.
لم يكن خطاب الرئيس الباجي السبسي نصا فقط، لكنه كان صورة أيضا، ولعل الصورة كانت الأقدر على بيان ما نقصده بالخطاب السياسي الجديد. إذ لفّت الكاميرا على الحاضرين، محاولة أن تقبض، في كل مرة، على من يقصدهم السبسي بكلامه، فكانت توجه، في كل مرة، إلى المعنيين بالاتهام أو النصح أو الاختلاف، حتى لو لم يعلن عنهم الخطاب مباشرةً. كما كانت
لحظة واحدة كانت مربكة وشديدة التأثير على مستوى التلقي، تلك التي أعلن فيها السبسي قرار عسكرة مناطق الإنتاج النفطي التونسية. مرّت الكاميرا على الحاضرين من قيادات الجيش التونسي الحاضرين، بالزي العسكري ومجموعة من القلائد والشرائط تزيّن أكتافهم، وأطلق السبسي هذا الكلمات: "الدولة مطالبةٌ بحماية موارد الشعب التونسي.. من هنا فصاعدا، الجيش التونسي يحمي موارد تونس.. التعامل مع الجيش التونسي صعيب أنا أنبهكم". لا نجد لغةً تعبر عن تلك الصورة غير "الإرهاب"، إرهاب الدولة، عندما يستخدم القائد الأعلى للقوات المسلحة هذا النمط من الخطاب اللغوي والصوري، في لهجة تهديدٍ واضحة للشعب، تذكّره بحالة الطوارئ التي تسمح للجيش بالإطلاق المباشر للنار، من دون انتظار أوامر أو تنبيه للمواطنين.
تظهر، من جديد، لنا صورة بن علي، وهو يصرخ في آخر خطابٍ له "سوف يحاسبون"، ولكن في الحقيقة، يتجاوز خطاب السبسي خطاب بن علي، نظرا لعامل الدقة، دقة اختيار من سيحاسب وكيف. هذه الصورة/ النص التي وضع من خلالها السبسي الجيش التونسي، في مقابل أبناء البلد، صورة جديدة من حيث فعاليتها السلطوية وتركيبها الخطابي. لعلها تعلن عهدا جديدا على مستوى فعالية الخطاب السياسي في العالم. خطابٌ يقوم على التهديد المباشر، والعنف المباشر، والسلطة المباشرة باعتبارها مكوّنات بنيوية، لتصبح مثلا الدعوة إلى طرد أحد الحاضرين من المعارضين أو ضربه أمرا عاديا ومقبولا (كما حصل في حملات انتخابية لترامب)، أو تهديد شعبٍ كامل، بقدرة الجيش على القتل، أمرا شرعيا.
هذا النوع من اللامعقولية absurdity، ومن الفوضى الكلية التي لا منطق لها، أصبحت السمات المركزية للخطاب السياسي المدار، وخطاب السبسي نموذج مصغّر منها. لعله يعكس، كما يقول بعضهم، منعرجا في المسار الديمقراطي التونسي، نعود فيه إلى ديكتاتورية مقنعة، ولعله يأخذنا إلى مساحاتٍ أسوأ بكثير، تعلن فيها الدولة عدم قدرتها على أداء مهامها، كما عبر عن ذلك السبسي في قوله: "الدولة لا تستطيع أن تعطي شغلا الآن، ولا تستطيع أن تقوم بالتنمية"، وتسلمها كليا، كما تفعل ذلك الآن بشكل كبير، إلى قطاع المال والاستثمار، ويتم بذلك محق ما تبقى من الوطن.
دلالات