وتأتي هذه الزيارة بعد سنوات طويلة من البرودة والحذر، خصوصاً منذ انحياز الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي إلى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين إثر اجتياحه لدولة الكويت، وهو الموقف الذي كاد ينسف علاقات كانت جيدة بدأت خيوطها حتى من قبل الاستقلال. كما أن السعودية تعاملت بكثير من الحذر بعد قيام الثورة في تونس، وهو ما جعلها تجمّد مساعداتها واستثماراتها إلى أن تتضح الصورة لديها. هذا وقد فاجأ السبسي الملك سلمان بقوله إن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة عندما شعر باليأس من احتمال قيام جامعة الدول العربية بإدراج القضية التونسية على جدول أعمالها لمدة أربع سنوات، توجّه نحو السعودية حيث استقبله الملك الراحل عبد العزيز آل سعود، الذي لم يكتفِ بدعمه مالياً، وإنما قدم له نصيحة ثمينة عندما حذره من سوء إدارة المعركة مع دولة قوية مثل فرنسا، بالتركيز على أهمية الدهاء والتدرج في المطالَب. وهي النصيحة التي أخذ بها بورقيبة واعتمدها في تنفيذ خطته التي كان يُطلق عليها "سياسة المراحل".
من العوامل التي مهدت لهذه المحادثات وجعلتها يسيرة، زيارة سابقة قام بها السبسي إلى السعودية، لم تستمر أكثر من ثلاث ساعات فقط لتقديم التعازي بعد وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز. من جهة أخرى رحّب الطرف السعودي بانخراط تونس السريع في التحالف الإسلامي العسكري الذي تقوده المملكة لمحاربة الإرهاب.
اقرأ أيضاً: تونس: انقسام سياسي حول "التعاون" مع إيران
وكان برنامج الزيارة يقتصر على توقيع اتفاقية للتعاون في مجال الدفاع، واتفاقية ثانية تخص قرضاً تقدمه المملكة إلى تونس بهدف إنشاء مشروع محطة كهرباء في منطقة المرناقية التونسية. لكن نظراً للتفاعل السريع الذي حصل بين قيادة البلدين، فقد فوجئ الوفد التونسي بالاستعداد الكامل الذي عبّر عنه الملك سلمان لضيفه التونسي لتقديم الدعم الكامل لتونس. وقد تُرجم ذلك الاستعداد في قرار يتمثّل في قيام وفد سعودي بزيارة إلى تونس خلال الأسبوع الأول من شهر يناير/كانون الثاني المقبل، سيترأسه وزير الخارجية عادل الجبير، والذي سيتعرف على الاحتياجات ذات الأولوية وفق ما سيعرضه الطرف التونسي. كما استجاب الملك سلمان لاقتراح تقدّم به السبسي لترميم عدد من المباني القديمة ذات الطابع الإسلامي التي أصبحت مهددة بالسقوط، إلى جانب بناء مستشفى في مدينة القيروان التاريخية.
كذلك وفّرت الجلسة التي عقدها الوفد التونسي برئاسة السبسي مع مجلس الغرف السعودية الذي يجمع رجال الأعمال بالمملكة، فرصة لتعميق الحوار مع العديد من المستثمرين، وهيأت فرصة لإجراء حوار صريح وشامل حول العوائق التي لا تزال تعرقل الاستثمار السعودي الخاص في تونس. وقد أبدى بعض رجال الأعمال المشاركين في هذا الحوار حرصهم على إنجاز مشاريع كبرى، خصوصاً في قطاعي الزراعة والسياحة العلاجية. وتعهّد وزير المالية التونسية سليم شاكر بإزالة العراقيل أمام هذه المشاريع، كما طلب السبسي من رجال الأعمال السعوديين والتونسيين اللجوء إليه إذا اعترضتهم مشكلة إدارية أو غيرها.
هذا مع العلم أن السعودية تُمثّل ثالث دولة عربية من حيث حجم استثماراتها في تونس، والتي تمثّلت في إنشاء 38 مؤسسة تُشغّل أكثر من عشرة آلاف مواطن تونسي. كما أسهم الصندوق السعودي للتنمية في تنشيط الحياة الاقتصادية التونسية من خلال 22 اتفاقية تم توقيعها مع تونس بمبلغ إجمالي يناهز 660 مليون دينار (نحو 326 مليون دولار). يضاف إلى ذلك وجود ما لا يقل عن 23 ألف تونسي يعملون بالمملكة.
ويظهر أن زيارة السبسي والوفد المرافق إلى السعودية، حققت أكثر من الأهداف التي رسمها الطرف التونسي، كما كشفت عن رغبة جدية لدى الطرفين في تعميق التعاون الثنائي من أجل خدمة مصالح البلدين. فتونس في أشد الحاجة للحصول على دعم خارجي حتى تتمكن من وضع حد لنسق التراجع في نسبة النمو، في حين أن السعودية تعمل بكل الوسائل من أجل قطع الطريق أمام إيران التي كثّفت من اهتماماتها بتونس خلال الأشهر القليلة الماضية. وكان السبسي واضحاً عندما أكد في محادثاته مع الملك السعودي أن إيران دولة هامة في المنطقة لا تستطيع أن تتجاهلها تونس، لكن في الوقت نفسه فإن العلاقات التي تربط التونسيين بالسعودية قديمة وعميقة، مضيفاً أن الانخراط في الحلف العسكري الذي بادرت المملكة لإنشائه يُعتبر اختياراً صائباً، وأن دعم تونس لهذا التحالف يُعتبر "الموقف الطبيعي الذي يجب أن تتخذه، خصوصاً في هذا الظرف الصعب لمواجهة المخاطر الإرهابية".
زيارة الرئيس التونسي إلى الرياض اعتبرها السبسي بمثابة إعادة الروح للعلاقات التونسية ــ السعودية، وقد تحمل الأيام والأسابيع المقبلة أخباراً جيدة تؤكد مصداقية هذا التوجّه، وهو ما من شأنه، إذا لم تحصل مفاجآت غير سارة، أن يساعد تونس على التخفيف من حدة الضائقة المالية التي تعاني منها حكومة الحبيب الصيد.
اقرأ أيضاً: الدبلوماسية التونسية مع السبسي: انفتاح على الجميع