السباق الروسي ـ الأميركي..تنافس محتدم على أسواق الطاقة الأوروبيّة
تؤكّد وكالة الأنباء، أسوشيتد برس، أنّ أميركا تسعى إلى رفع معدلات تضييق الخناق، وتوسيع آفاق الحصار الاقتصادي ضدّ روسيا، وتدرس الخطوات العملية الممكنة لتحرير دول أوروبا الشرقية والوسطى من الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية، من خلال بناء همزات وصل الطاقة، وخطوط نقل الغاز البديلة، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية في هذه الدول، ويمكن اعتبار هذه المشاريع ناجحةً بجدارة، إذا تمكّنت من تحرير دول أوروبا الشرقية، والتي كانت مرتبطة عضوياً بالاتحاد السوفييتي السابق، من اعتمادها الكبير على موسكو.
لتحقيق هذه الأهداف، تقترح واشنطن بناء خطوط نقل غاز جديدة، ومحطات ترانزيت في الإقليم، وتقديم الدعم للشركات الأميركية، "ويستنهاوس" مثالاً، لبناء محطات نووية، لتوليد الطاقة وتطبيق الآليات التقنية للتنقيب عن الغاز الصخري، علماً أنّ موارد الطاقة السنوية تلبّي 70% من حاجة الإقليم، وتحتكر روسيا توريد ما تبقى من حاجة الإقليم البالغة 30%.
بالطبع، لا يمكن لروسيا أن تقف مكتوفة الأيدي، وهي المحتكر الأكبر لأسواق الطاقة في أوروبا الشرقية والوسطى، وغالباً ما تحذّر هذه الدول من مغبّة الحصول على موارد الطاقة من الغرب وأميركا، مستخدمة الأحزاب الاشتراكية واليمينية المتطرفة التي بدأت، منذ سنوات، بمغازلتها، وتسيطر روسيا على كامل قطاع الطاقة، بدءاً من ضخّه وامتلاك الخطوط وفرض إرادتها ورؤيتها بشأن مجالات استخدامه بعد تسويقه. كما نجحت روسيا، من خلال الأحزاب الموالية، في شيطنة تقنيات التنقيب عن الغاز الصخري، للمخاطر التي تهدّد البيئة نتيجة لاستخدام مركبات كيميائية كثيرة خلال عمليات استخراج الغاز الصخري.
تسارعت وتائر حثّ الولايات المتحدة الأميركية الدول المعنية للبحث عن بدائل للغاز والنفط والفحم الروسي، مع اشتعال الأزمة الأوكرانية، وضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم. تجدر الإشارة إلى أنّ وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قد زار صوفيا خلال شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، لدعم مشروع بناء مفاعل نووي سابع في المحطة النووية الأولى، "كوزلودوي"، بتقنيات وتأثيث أميركي، وتسريع بناء همزة وصل الطاقة مع اليونان، للحصول على بدائل للغاز الروسيّ عبر الخطوط الدولية. من جهة أخرى، تقدّم روسيا أسعاراً مرتفعة للغاية للدول التي ترفض الانصياع لإرادتها، عقاباً للانجراف خلف الناتو ومشاريعه، وعدم اتخاذ موقف داعم لروسيا في سياستها في أوكرانيا، ومباركتها ضمّ شبه جزيرة القرم، والالتزام ببنود قرار الحصار الاقتصادي المعلن ضدّها. وتضيف وكالة أسوشيتد برس أنّ كيري زار رومانيا وتركيا أيضاً التي تعتبر الجسر الرئيس نحو آسيا الوسطى، الغنية بموارد الطاقة لدراسة الخيارات المتوفرة وسبل الضغط لمواجهة الاحتكار الروسي لموارد الطاقة.
أميركا وترويج الغاز المضغوط
أكّدت فكتوريا نيولاند، وهي كبيرة الدبلوماسيين الأميركيين في أوروبا، أنّ فشل هذه الجهود يعني تشجيع الطرف الروسي لزيادة الضغوط الممارسة على دول أوروبا الشرقية والوسطى، لتحقيق مزيد من الأهداف والنفوذ الجيوسياسي. روسيا تعمد، كذلك، إلى عدم الالتزام بضخّ كميات الغاز المطلوبة بانتظام للدول المجاورة، ما يؤدّي إلى سوء تفاهم وخلاف بين الدول المعنية وشركات الطاقة الوطنية، وعرقلة عمليات البحث عن بدائل لموارد الطاقة. من السهل عملياً تمكّن الدول الكبرى، كالصين، مثلاً، عقد اتفاقيات منفصلة مع الرئيس فلاديمير بوتين مباشرة، للحصول على أسعار متدنية، وتعذّر ذلك على الدول الأوروبية الصغيرة، بشكل منفصل، والتي غالباً ما تنال أغلى الأسعار من الطرف الروسي، ما يطرح مجدّداً ضرورة التوصّل إلى بدائل عن الغاز الروسي. ويكثر الحديث، أخيراً، عن إمكانات الحصول على الغاز المضغوط (LNG) من النرويج وقطر، وربّما الولايات المتحدة الأميركية أيضاً، بدعم من الولايات المتحدة وليتوانيا وقريباً من بولندا أيضاً. ومن المشاريع المستقبلية، توقع تدفّق الغاز من الممر الجنوبي القادم من بحر قزوين، عبر أذربيجان وجورجيا وتركيا فأوروبا، من دون العبور بالأراضي الروسية.
سيتيح تخفيف القبضة الروسية في مجال الطاقة المجال للدول الأوروبية المتاجرة ما بينها مستخدمة تقنيات الغاز المضغوط LNG التي يمكن استيعابها وتخزينها على شواطئ البحر الأدرياتيكي، وبناء شبكة نقل الغاز بين رومانيا وبلغاريا، لتحقيق مشاريع تكامل الطاقة. ويتوقع آموس هوستين، مسؤول الطاقة الدولية لدى وزارة الخارجية الأميركية، أن تتراجع معدّلات اعتماد دول أوروبا الشرقية على موارد الطاقة الروسية، بنسبة 20% حتى العام 2020، على أن تستمرّ بروكسل بتقديم الدعم المالي لتنويع مصادر الطاقة في الإقليم، والتزام أميركا بتقديم التقنيات والدعم السياسي لتحقيق ذلك. وقد أكدت فكتوريا نيولاند أنّ الهدف يتمثّل بإيجاد مناخ تجاري للمنافسة الحرّة وعدم ترويج استخدام موارد الطاقّة سلاحاً استراتيجياً، ورحّبت كذلك بالدعم الذي قدمته بولندا وهنغاريا وسلوفاكيا لدولة أوكرانيا بتزويد الأخيرة بموارد الطاقة، وكذا همزة الوصل التي ربطت، أخيراً، مولدوفيا برومانيا.
لكن، كيف يمكن للولايات المتحدة رفع مستوى صادراتها للغاز الصخري الذي تمكنّت من إنتاجه بكميات كبيرة في العقد الأخير؟ لتحقيق ذلك، لا بدّ من تطوير البنية التحتية لدول أوروبا الشرقية، لكي تتمكّن من استيعاب هذا الغاز وتخزينه، ورفع حجم الاستثمارات لتنمية هذا القطاع. عدا عن ذلك، لا تبذل الولايات المتحدة الجهود المطلوبة لرفع معدّلات صادراتها من الغاز الصخري LNG لما وراء المحيط. وعملياً، يمكن لاكتشاف المزيد من منابع الغاز في دول الإقليم تخفيف معدّلات الاعتماد على الغاز الطبيعي في المستقبل المنظور، وخفض أسعاره، ويمكن لهذه الإجراءات التأثير على حجم الأرباح التي تجنيها الشركات العملاقة، وعلى رأسها شركة "غازبروم" الروسية. ويدرك الطرف الروسي أبعاد التوصل إلى هذه البدائل. لذا، قام ألكسي ميلر، رئيس شركة غازبروم، بزيارة عاجلة، أخيراً، لهنغاريا، ما أدّى إلى وقف إمدادات الغاز الروسي عكسياً لأوكرانيا، وليس من المتوقّع أن تعارض هنغاريا المطالب الروسية، علماً أنّها قد صادقت على اتفاقية مع الطرف الروسي، قبل قرابة العام، لتوسيع محطتها النووية، لتوليد الطاقة بقيمة 11.3 مليار دولار.
روسيا ورفع معدلات إمداداتها من الغاز إلى أوروبا
تسعى شركة غازبروم الروسية إلى رفع معدّلات الغاز المصدّر إلى أوروبا، حتى العام 2025 لقرابة 650 مليار متر مكعّب، وفقاً لتصريحات دميتري فلاديميروفيتش ليوغاي، رئيس قسم التنمية في الشركة. وأشار ليوغاي، في تقديمه مشاريع الشركة وخططها، أمام المستثمرين الدوليين في هونغ كونغ، إلى أنّ شركة غازبروم تمتلك مقدّرات كامنة، لرفع حجم الغاز الطبيعي في العقد المقبل بقيمة 550 ـ 650 مليار متر مكعب. تجدر الإشارة إلى أنّ كميات الغاز التي تمكنت شركة غازبروم من تسويقها خلال العام 2014 لم تتجاوز 445 مليار متر مكعب، وتقل هذه الكميات المنتجة عنها خلال العام 2013 بنسبة 9% وأقل بكثير من الكميات التي سوقتها الشركة في أوج الأزمة الاقتصادية عام 2009، بقيمة 461 مليار متر مكعب. لوغاي أوضح كذلك أنّ الشركة ستحتفظ بدورها الرئيس كأكبر مصدّر للغاز الطبيعي في أوروبا، ما يغطّي 30% من حاجة الاتحاد، وستحاول الشركة رفع معدّلات صادراتها، أخذاً بالاعتبار ازدياد الحاجة للغاز، نتيجة تراجع بناء المفاعلات النووية المنتجة للطاقة الرخيصة البديلة، وازدياد عدد العربات التي تستخدم الغاز الطبيعي، بدلاً من البنزين والديزل.
وتشير البيانات، كذلك، إلى أنّ الفارق في الاستهلاك في الإقليم حتى العام 2030 يقدّر بحوالي 400 مليار متر مكعب، وستلجأ أوروبا إلى تعويض هذا الفارق من الدول المصدّرة، وبشكل رئيسيّ من روسيا مجدداً والنرويج والجزائر. ويتوقع ألكسندر ميدفيديف، نائب رئيس الشركة الروسية، ارتفاع حاجة أوروبا من الغاز الطبيعي بنسبة 8% في السنوات الثلاث المقبلة، ما يعادل حتّى 160 مليار متر مكعب. وتنافس روسيا في مجال الطاقة كل من أوزبكستان وتركمنستان، وتحاول جاهدة خفض كميات الغاز الذي تصدره الدولتان إلى قرابة 10 مليارات متر مكعب لصالحها، كما تحاول رفع كميات الغاز الروسي المضغوط المصدّر إلى الدول المعنية (LNG) لحوالي 25 مليار متر مكعب سنوياً، ورصد مزيد من الأموال لتنمية هذا القطاع.
وقف توسيع خط دفق الشمال
أعلنت شركة غازبروم عن وقف مشاريع توسيع خط "دفق الشمال"، وهذا ثاني قرار تتخذه الشركة لوقف هذا المشروع الموجّه إلى أوروبا خلال شهرين، وفقاً لما نشرته وكالة "رويترز". وتشير بيانات الشركة إلى أنّ كميات الغاز في الخط العابر لبحر البلطيق، والمخصّص لتزويد ألمانيا باحتياجاتها من موارد الطاقة كافٍ، ولا يحتاج لمزيد من التوسّع في الوقت الراهن. كما أدّى تراجع الطلب على الغاز إلى التخلّي عن مشاريع التوسّع الروسية، في مجال الطاقة، لعدم توفّر الأموال المطلوبة لتحقيق أهداف غازبروم التنموية. وترتبط أسعار الغاز عملياً بأسعار النفط التي تراجعت بنسبة 50% منذ شهر يونيو/ حزيران 2014، كما تراجعت أسعار الغاز في بريطانيا للصفقات القصيرة الأمد، حيث الأسواق الأكثر حيوية في أوروبا، بنسبة 25% خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2014. وأفادت مصادر في شركة غازبروم بأنّ مشاريع التوسّع قد جمّدت بسبب الأوضاع السياسية المتردية، وتبعات الأزمة الأوكرانية. وربطت الشركة، خلال العام الماضي، توسيع خط دفق الشمال بمدّ أنابيب إضافية، حتى بريطانيا. تصل حمولة خط دفق الشمال إلى قرابة 55 مليار متر مكعب، وتسدّ 10% من حاجة الاتحاد الأوروبي، وتسعى روسيا إلى توسيع قدرات هذا الخطّ إلى الضعف في فترة لاحقة.
تتمكن شركة غازبروم من تحميل 50% فقط من سعة هذا الخط، لعدم تمكنها من استخدام خط "ORAا" الذي يصل دفق الشمال في ألمانيا مع شبكة نقل الغاز التشيكية. وتردّد الاتحاد الأوروبي، مراراً، بشأن السماح لروسيا باستخدام خط "ORAا"، الشأن الذي سيمكّن غازبروم من رفع معدّلات الغاز المارّ بخط الشمال، والتوصل لمزيد من أسواق الطاقة في أوروبا الوسطى والالتفاف على أوكرانيا كما هو الهدف السياسي لبناء خط دفق الجنوب. تمتلك شركة غازبروم 51% من أسهم دفق الشمال، شركتا Wintershall Holding & E.ON Ruhrgas تمتلكان 15.5% وتمتلك كل من Gasunie والشركة الفرنسية GDF Suez 9% من أسهم وأصول هذا الخطّ.
روسيا بذلت جهوداً كبيرة لإتمام مشروع "دفق الجنوب" لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، تحت مياه البحر الأسود، مروراً ببلغاريا وصربيا وهنغاريا حتى النمسا، وهناك تفرع آخر يمر عبر اليونان إلى إيطاليا. لكنّ روسيا أعلنت عن إلغاء هذا الخط خلال ديسمبر/ كانون الأول 2014، بسبب الشروط التي وضعتها أوروبا، وأهمها عدم احتكار روسيا بالكامل هذا الخط، والسماح بنقل كميات من الغاز لا تقل عن 30% من سعة الخط من مصادر غير روسية. جاءت هذه الاجراءات على لسان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من اسطنبول، معلناً عن بناء خط "الدفق التركي" ليصبح البديل عن خط دفق الجنوب، وتسعى روسيا إلى التخلص من الشروط الأوروبية، وتخزين الغاز في تركيا، بهدف بيعه لأوروبا بوساطة تركية.
خط الدفق التركي
أفاد المكتب الإعلامي لشركة غازبروم بأنّ روسيا وتركيا قد اتفقتا على بناء خط جديد، تحت مياه البحر الأسود "بدلاً من دفق الجنوب"، لتجميع الغاز في تركيا، وبيعه بعد ذلك، للدول الأوروبية الراغبة بالحصول على الغاز الروسي.
وتشير البيانات إلى أن خطّ الدفق التركي سيستخدم 660 كيلومتراً من خط دفق الجنوب الذي أعلنت روسيا التخلّي عنه، وسيمر الخط التركي في 250 كيلومتراً من الأراضي التركية الواقعة في القارة الأوروبية، وتصل سعة هذا الخط سنوياً إلى قرابة 63 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. وكما سارعت روسيا للتخلّي عن خط دفق الجنوب، يمكنها العودة إلى بنائه، وخصوصاً أنّ هنغاريا وإيطاليا وصربيا معنية، إلى حدّ كبير، بإتمام بناء هذا الخط، في الوقت الذي تتمسك فيه بلغاريا بالشروط الأوروبية، للموافقة على مروره عبر المياه الإقليمية في البحر الأسود، والأراضي البلغارية في ما بعد، حتى الحدود الصربية.
يتبيّن من هذا العرض أنّ النفوذ الروسي في مجال الطاقة يفوق بكثير النفوذ الأميركي في إقليم أوروبا الشرقية، ويمكن لروسيا أن تستخدم هذه الورقة بطريقة أكثر ديمقراطية، بعيداً عن المواجهة والصراع، إذا رغبت بالاحتفاظ بهذه الأسواق في المستقبل.