27 ديسمبر 2014
السؤال عمّا تبقّى من العراق!
كل يوم يمرّ على العراق، ويمرّ به العراق، يعيدنا، من جديد، إلى قراءة "صفحة الاحتلال الأميركي" له، فهي صفحة لم تُغلق ولا طُويت. وفي كل قراءة، نكتشف أن ما كان مُعدّاً لهذا البلد من الإدارة الأميركية يجري تنفيذه على مراحل، استكمالاً للمشروع الأكبر والأوسع والأشمل: مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، وقد احتازه بوش الابن من شيمون بيريز، ووضعه الأخير في كتابه: "الشرق الأوسط الجديد"، وأقامه على دعائم خمس، أربع منها يتمتع بها هذا "الشرق..."، هي: رؤوس الأموال الكبيرة، والثروات الطبيعية الهائلة، والأيدي العاملة الرخيصة، والأسواق المفتوحة للاستهلاك الواسع. أما الدعامة الخامسة التي "تحتضن" هذا كله، وتوجهه "الوجهة المطلوبة"، فهي "العقل"، وقد حدده بيريز بـ"العقل الإسرائيلي"، بحكم العملية المنظمة التي جرت لـ"تصفية العقول العربية" والتي تمّت، وبدأت من العراق، بيدٍ أميركية، تعاونت معها أيدٍ أخرى، كانت اليد الاسرائيلية في مقدمتها.
ويوم بدأت أميركا الصفحة الأولى لهذا "الشرق الأوسط الكبير" من العراق، وبالعراق، في حرب احتلاله العام 2003، كان أن بدأت بما يجعل أرض الواقع مفتوحة لتنفيذه: فالقوات العسكرية تحتل وتسيطر، وتُشرّع أبواب مؤسسات الدولة وممتلكاتها أمام "الغوغاء" بطرفيها: "المنظّم" و"المُعدّ" لمهمات محددة، و"العفوي" الذي دفعه الجهل والتخلّف والنزعات البدائية المتحكّمة في تكوين فئاته، فاستكمل تخريب ما لم يطله "التخريب المنظّم"، وقد جرى الإعداد له لكي يكون كذلك، تمهيداً لإحلال "العراق الجديد" محل ما كان من عراق قائمٍ بكيان دولة ومؤسساتها.
وكان لهذه الخطة الأميركية أن تقنّعتْ بغير قناع، وساعدتها في "عملية التقنّع" هذه "قوى داخلية"، وإنْ كانت "مجلوبة" من الخارج، جرى إعدادها لمثل هذه المهمة التي سنجدها تتخذ عند بعض المثقفين تسمية "التحرير"، مرددينها في كتاباتهم من دون خجل من وطن، أو ممّا كان لبعضهم من "تاريخ سياسي"، ومن دون خشية من أن يقول التاريخ في الغد ما قد يقوله فيهم.
بدايةً، جرى تقديم احتلال العراق على أنه "تحوّل تاريخي، اجتماعي وسياسي" في حياة هذا البلد، وبما من شأنه أن يُغيّر الواقع المستقبلي لهذه الحياة. واضطلعت بمهمة "التبشير" بهذا "الواقع الجديد" المنتظر ثلاثة أطراف، هي: وسائل الإعلام الأميركية، المباشرة منها وغير المباشرة، والعملاء الذين أعدتهم الولايات المتحدة "إعداداً نخبوياً"، بوصفهم متعاونين معها على تنفيذ "مشروعها المستقبلي" هذا، وأوكلت إليهم الاضطلاع بالمهمة، ليجمعوا من حولهم الطرف الثالث، وهم المعتاشون والمرتزقة الذين سيضطلعون بمهمة "مخاطبة الشارع".
وعندما سأل مَن تبقى من الشارع العراقي، مستعيناً بما لذاته الوطنية من قدرة على إثارة السؤال: هل يمكن لإنسانٍ ولد على أرض، ونشأ، واكتسب "شرعية وجوده" تاريخياً منها، أن يخون هذا كله، ويلتحق بالمستعمر الغازي، فيكون في ركبه؟ حين أثار رجل الشارع هذا السؤال، عدّه "هؤلاء" سؤالاً خارج السياق، ثم عمدوا إلى إخراج السائل من "حلبة السؤال" (ولا أقول الصراع)، بمحاصرته، أو تصفيته، أو إكراهه على الهجرة، ليفرغ الواقع لما يريدون إحلاله فيه... وجرى.
وقالوا لإنسان هذا البلد، وقالوا الحقيقة، إن الحياة تطوّر مستمر، أو لا تكون، إلا أن هذا الإنسان وجد نفسه، بعد أكثر من عشر سنوات ممّا سمع منهم، أمام تزييف فعلي لمنطق هذه الحقيقة، وعليه أن يستسلم لواقع موت بطيء، إنْ كان قد بدأ من عملية إفراغ الحياة التي يعيشها من كل فعل حقيقي، ومنتج، فإنه سينتهي إلى إفراغ هذا الإنسان من كل طاقة مبدعة، يمكن أن تضيف شيئاً إلى ضمير العصر.
وقالوا لهذا الإنسان إن عليه "انتظار المقبل" من الأيام التي يتأسس عليها كل وجود مستقبلي. وسمع هذا الإنسان ما قالوه، وانتظر، وإنْ على مضض، فلم يشهد ما يشير إلى أية تهيئة لهذا "المشروع المستقبلي"، بشكله السليم وصورته الصحيحة، وإنما وجد بديله، عمليات إبادة جماعية تتصاعد هنا وهناك من أرض العراق المغلوب، وميليشيات تزداد نفوذاً، بما تحقق لنفسها من سلطة في واقع مرتبك.
وقالوا للكاتب، والمثقف، إن عليهما، استجابة لما افترضوه، أن يؤسسا لرؤية فكرية جديدة تمثّل، وتتمثل فيها، حالة واقعية ـ تاريخية جديدة، فانخدع بعضهم بذلك، واستسلمت عقولهم، غير المستقرة، لما تمت دعوتهم إليه، فإذا بهم يجدون أنفسهم، من حيث يعلمون، أو لا يعلمون، منخرطين في "المشروع الأميركي" الذي لا يُقرّ بأية مشروعية للعقل، فكراً وتفكيراً، خارج "نظامه البراغماتي".
وفي هذا السياق، جرى "تحريك" أقلام عديدة (بعضها ممّن كانت لهم انتماءات سابقة استثمروا حضورها) للمساهمة في تكثيف هذه "الرؤية"، إلى الحد الذي بتنا معه نشهد "تنافساً" للانخراط في هذا "التيار" الذي راح يُقدّم من الأجوبة ما من شأنه الخروج بهذا الإنسان عن "سياقات الوطنية"، بما لها من تاريخ، لينتظم، أو يجري العمل على تحقيق انتظامه، في سياق "المشروع"، بما عيّنوا به حالة "العراق الجديد"، وقد ارتفع فيه "صوت الآخر" على حساب إسكات صوت إنسانه.
من هنا، كان دخول أقلام عديدة معترك "المزاد السياسي"، ليكون "حبر الكتابة"، وقد تعدّدت ألوانه، "فرض عينٍ"، لا "محط اختيار"... و"بمقتضى التوجيه".
إلا أن التغيير جرى ويجري، وما جرى تغييره هو المجتمع. ولكن، في أي اتجاه؟ وضمن أي توجّه؟
لم يكن ما حصل "حالة ثورية"، من شأنها أن تغيّر هذا المجتمع تغييراً جذرياً، ولا تمّ في الاتجاه الصحيح والسليم، وإنما كان تغييراً باتجاه تكريس الحالة الطائفية، وشقيقتها الإثنية التي غيّرت المجتمع باتجاه التقسيم الطائفي ـ الديني، والاثنيّ ـ العرقي، ليصبح المنطق المهيمن هو "المنطق الفِرَقي" الذي تجد فيه أميركا، وعملاؤها، "الحل السهل" في "الواقع الصعب".