الزهايمر

22 سبتمبر 2015

فايز ملص .. شاخ فجأة أكثر من عمره

+ الخط -

(إلى فايز ملص)

قالت لي السيدة التي ظهرت لي هكذا، فجأة، في وسط الطريق، وهي تحمل أكياساً لا قعر لها، أكياساً شبه فارغة، لم يبق منها إلا الشكل، ومحتويات مشوّهة يصعب معرفة أصلها الحقيقيّ: هلّا حرستِ لي أكياسي، وصددت عنها اللصوص الملاعين؟ سأغيب دقائق، وأعود. وتابعت: إياك والنفتالين. ولم تغب، ولم تتزحزح من مكانها، إنما أغلقت عينيها، وجلست على الرصيف، تحت شمس حارقة، ليس بعيداً عن مستوعبات النفايات، بثيابها الشتوية، وشعرها الأبيض المتناثر في جميع الاتجاهات.

تلفّت حولي أبحث عن تفسير، فوافاني الحانوتيّ المجاور بحركة من رأسه: لا تعيريها انتباهاً. وأتبع ذلك بحركة من يده، تشير إلى أن ما ينبغي أن يحتلّ جوف الجمجمة يعاني منذ زمن بعيد من إشكال. وحين رآني ما زلت أحدق فيه، أردف: الزهايمر، المسكينة، الزهايمر، يا بنت الحلال.

منذ ذلك الحين، وكنت في سني مراهقتي، وأنا مرتعبة منه. الزهايمر. ويسري في بدني ذعر لا أدري كيف أداويه. تماماً كما هو خوفي من السباحة. عقدتي. ألا تطاول أطرافي الأرض، أو شيئاً صلباً، يمكنني التمسك به. الماء يغمرني، إنه أكثر من أن أقاوم، عتمة وبرودة وصمت. الزهايمر. هكذا أنا أراه. حياةٌ سابحة في العدم، في ديكورٍ من البياض، حيث لا غبشة، لا فاصلة، لا تفصيل يمكن الركون إليه، الاستدلال به، الانطلاق منه. الغربة في تجلّيها الأقصى، غربة عن الآخرين، عن المحيط، عن الذات. وفي لحظاتٍ نادرةٍ من استرداد الوعي، رعبٌ لا يوصف، إذ يلتقي الشخص بصورته، بذاته، بشخصه، ذلك التوأم الذي خرج إليه من خزانة حياته، المخبّأة تحت سابع أرض.

بدأ فايز، وهو المتقّد الذهن، المشاكس والممازح أبداً، ينسى أسماء الذين يحضرون في أحاديثه. يقول ذاك الذي يدّعى... ثم يعلق الكلام في فمه، فيلاقيه بشير في منتصف الطريق، ويعطيه الاسم، فيتابع غير عابئ بما أوقفه لحظة، ليس أكثر، عن مواصلة الحديث. ثم صار فايز يصمت، ويغيب عن الأحاديث، وراح يتسلّل إلى نظرته شيء من اللامبالاة. ثم شاخ فايز فجأة، أكثر من عمره، لكنه استمرّ يحضر لقاءات الأصدقاء، وإن مازحه أحدهم استجاب، وزايد وأضاف. ثم صار لا يأتي، أبداً، وإن اتصلنا به على الهاتف للاطمئنان، ردّ باختصار عجيب. ثم صار لا يردّ أبداً على الاتصالات، حتى عرفنا أنهم شخصوا له ذلك المرض اللئيم. كالماء، تسرّب فايز من بين أصابعنا، كالماء...

لا ماء في الرأس/ فقط  يباس /خواءٌ / وعواء.

وهناك في البعيد/ هناك/ حيث يقيم العراء

يقف الرجل مشرّعاً ذراعيه

كي ترتمي في أحضانه/ وحشةُ المساء.

 

حبل غسيل يمتدّ/ وإن مُثبـَتاً إلى فراغ

يا للغرابة/ فيما الهواء يشتدّ

وفي لطخة بيضاء/ ترتاح عصافير الأمس

ولا تخاف.

 

أرقص وهلِّل/ أيها الغريب

ففي راحة اليد/ مخبـأ أمين

لأوامـِر الممرّضة/ لمسطرة المعلّـمة

ولحبّة دواء/ مكوّرة سوداء

على قفاها كلمة/ تتهادى كبهلوان/ على طرف اللسان

تنثني/ تنحني/ تتمايل/ تلتوي

وفي اللحظة الحاسمة/ لا تقفز/ ولا ترعوي

وإنما تطير.

 

أصواتٌ/ وجوهٌ/ وقعُ أقدام

لأخيلةٍ مخاتلة/ تراوغ نورَ الصباح

تسرق الصِباغ/ وترسم على الزجاج

فماً يفور/ وعيناً غائمة/ ثم تدعو الحاجبين

أن يراقبا/ الزحفَ الحثيث

 لدودة الفراغ.

 

في الصندوق الخشبي المستطيل/ لم تكن أنت الميت

ولا كنا نحن هناك

قرقعة حصىً بيضاء/ نعيق غرابٍ أسود

وسماء منقبضة/ ترتدي قفازات/ تنفخ فقاعات/ ترسل رذاذا

وتصفق للهواء.

 

وأخيراً/ وإليكَ منّي/ لم يكن هذا إلا كلام قليل

خارج السياق/ ولا يليق/ تحت المرثية وكسير

لكنه، يا صديقي/ صحيح

وإنْ لم يكن خالياً/ من ملح دمعنا الكثير.

دلالات
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"