الريع والدولة الأمنية والربيع العربي

03 يناير 2015

كويتيون يتتبعون سوق الأسهم (31 ديسمبر/ 2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

كان أبرز درع استخدمته الدولة الريعية العربية، لتقي نفسها رياح الربيع العربي، عائدات النفط لشراء الذمم، كانحناء استراتيجي حتى تمر العاصفة. ومرت عاصفة "الثورات" بسلام. فلم تشهد أي دولة ريعية عربية، وكلها تسلطية بمختلف نماذجها، احتجاجات اجتماعية، قوية بما فيه الكفاية لتهز عرش الأنظمة الجاثمة على صدور مواطنيها منذ عقود. وحركت هذه الأنظمة، أكثر من أي وقت مضى، آلة توزيع جزء من الريع، ليس سعياً إلى توزيع عادل للثروات وللعدالة الاجتماعية، وإنما لشراء الذمم، بتلبية الحاجيات الاقتصادية، حتى يغض المواطن البصر عن المطالبة بالحريات السياسية. ونجحت الأنظمة الريعية في استراتيجية التهدئة، ولو إلى حين، بالمال. وساعدتها في ذلك ظروف مالية مواتية للغاية، تتمثل في الارتفاع الحاد لأسعار النفط في السوق العالمية.

أما الظروف الأمنية، فتمثلت في تعثرات الربيع العربي وانتكاساته في ليبيا وسورية، لعب فيها، أيضاً، ريع بعض الدول الخليجية، بتغذية عدم الاستقرار وتمويله، دوراً أساسياً. فأصبحت الحجة حجتين، بالنسبة لهذه الأنظمة التي تقول لشعوبها أن تلبي حاجياتها، وفي الوقت نفسه، تضمن لها الأمن والأمان، على عكس ما يحدث في دول الربيع العربي.
وهنا، حدثت نقلة نوعية في تعامل التسلطية الريعية العربية مع أحداث الربيع العربي، فهذا الأخير أربكها في البداية، وجعلها تتخذ موقفاً دفاعياً بالأساس، من خلال توسيع سياسة شراء الذمم، بزيادة دعم المواد الأساسية، ورفع الأجور وإطلاق إصلاحات (لم تأت بتغيير يذكر). ومن ثم، من المنطقي أن تكون مصائب الربيع العربي فوائد عند التسلطية العربية التي تنفست الصعداء، واستعادت قوتها، لتبادر في بعض الحالات بالهجوم. حيث دعمت دول تسلطية ريعية خليجية الردة الانتقالية في مصر، وساهمت بالمال والنفوذ في إحلال النظام القديم محل السلطة الانتقالية، ليتحول الربيع العربي في مصر من تغيير للنظام إلى مجرد تغير داخل النظام.
لكن، تجري رياح أسعار النفط في السوق العالمية بما لا تشتهي سفن التسلطية الريعية العربية، التي بدأ يهتز يقينها بخروجها من سلام من موجة الربيع العربي. فهي أغدقت المال في شرائح واسعة من المجتمع، لشراء السلم الاجتماعي، بدل الاستثمارات الضخمة والعقلانية لتطوير الاقتصاد الوطني، خدمة للبلاد والعباد. فمنطق التسيير على المديين، القريب والمتوسط، في أحسن الأحوال، هو السائد في دول اختزلت أولوياتها الأساسية في تجنب الربيع العربي الذي رفع، بشكل مثير، إلى مصاف التهديد الاستراتيجي! وكأن الشعب هو العدو اللدود للأنظمة، على الرغم من أن الأخيرة إنما وجدت لخدمة الأخير، لا لاستعباده.
والآن، وقد تهاوت أسعار النفط، فماذا سيحدث؟ ما هي تداعيات سياسة التقشف المرتقبة؟ بالطبع، كما تهاوت هذه الأسعار، فقد تعاود الارتفاع مجدداً، لكن الحكمة في العبر، الواجب استخلاصها من إدارة التسلطية الريعية لموارد الأمة. فالاعتبارات الأمنية الضيقة (أمن النظام القائم) جعلتها لا تهدر فقط إمكانات الأمة، بل تفسد النسيج الاجتماعي، بخلق مجتمع يعمه الفساد والاستفادة من المال العام عن غير وجه حق. وبالنظر إلى الاحتقان الاجتماعي في بعض الدول، حتى في عز الطفرة النفطية وسياسة شراء الذمم عبر التحويلات الاجتماعية الضخمة، فإن عجز هذه الدول عن ضمان تدفق هذه التحويلات الاجتماعية، ومختلف قنوات الفساد التي تحتويها، سيزيد من الضغط اجتماعياً، ما ينذر باحتجاجات اجتماعية عارمة، قد تسير على خطى أحداث الربيع العربي. لكن، إذا كان الريع النفطي سمح للدول العربية النفطية بتجاوز "محنة" الربيع العربي، فإن تهاوي أسعار النفط لا يعني، بالضرورة، احتجاجات اجتماعية بحجم هذا الأخير. فالأنظمة قد تفقد الحجة المالية، لكنها لم تفقد بعد الحجة الأمنية، خصوصاً أن أوضاع ليبيا وسورية تزداد سوءاً، و"وحش" داعش يُضخم، أيضاً، لخدمة مآرب سياسية، ويطيل أمد الدولة الأمنية العربية، مؤجلاً مجيء الدولة الديمقراطية، ما يعني أن مستقبل الحجة الأمنية واعد، على الأقل على المدى المتوسط.
إقليمياً، سيحد تراجع عائدات النفط، بشكل أو بآخر، من دعم دول خليجية مالياً وسياسياً لقوى إجهاض الربيع العربي، ما سيفقدها نفوذها، وبالتالي، ولاء القوى المحلية الموالية لها. ومن هذا المنظور، قد يقود تهاوي أسعار النفط إلى تخفيض حدة الصراع في سورية، وربما حتى في ليبيا.
أما دولياً، فإن تراجع أسعار النفط سيضعف من الموقف التفاوضي للدول الريعية العربية، في علاقاتها مع القوى الغربية الكبرى. حتى وإن كانت داعش، ونظيراتها، قد تضمن لها قيمة استراتيجية (دور الدولة الأمنية بالنسبة للخارج)، فإن القوى الغربية لن تتردد في الضغط عليها، خدمة لمصالحها، وليس بالضرورة لدفعها نحو إصلاحات سياسية جوهرية.
والمحصلة النهائية لهذا كله في غاية من الخطورة: فالتسلطية الريعية العربية هدرت إمكانات شعوبها، وإمكانات تطورها اقتصادياً وسياسياً، بانتهاجها سياسة شراء السلم الاجتماعي، بدل التنمية الاقتصادية. ومع تراجع عائداتها، تصبح منكشفة، أكبر من أي وقت مضى، داخلياً وخارجياً. فهي لم تحقق الشوكة حيال الخارج، وعملت على تحقيقها في الداخل، ونجحت في ذلك حتى جاء الربيع العربي، لينقل الخوف من معسكر الشعوب إلى معسكر الأنظمة. وبما أن الآلة القمعية لم تعد كافية، وتوجب الاعتماد على الآلة المالية، فإن تآكل الأخيرة يخل بأحد الثقلين، ما يجعل التطورات مفتوحة على كل الاحتمالات.