الرواية والحرية

25 مايو 2018
هالة لمين/ تونس
+ الخط -

المتأمل حالَ الفكر السياسي العربي في العقود الماضية، سيدهشه أن تكون الرواية قد نابت عن السياسة في المواجهة مع أنظمة القمع، إذ قلما وُجد سياسيون جعلوا من الدفاع عن الحرية شعاراً رئيسياً من شعارات الفكر السياسي، ولم تدافع الأحزاب عنها، وقلما وُجد مفكرون انشغلوا بالتأصيل لهذه القيمة العظيمة في حياة البشر، وبين كتاب زكي نجيب محمود "عن الحرية أتحدث" وكتاب عبدالله العروي "مفهوم الحرية"، أو كتاب عزمي بشارة "مقالة في الحرية" مسافات زمنية كبيرة لم تشغلها كتب عربية أخرى في الحديث عن الحرية، أو عن العدالة.

بل اقتصرت محاولات الفكر على ترجمة الاهتمامات الغربية في هذا الحقل، حيث تُرجم كتاب جون ستيوارت ميل "الحرية" أكثر من مرة، كما تُرجم كتاب إشعيا برلين "خمس مقالات في الحرية". ولم تكن لدى الأحزاب السياسية نظرية عن العدالة، ولا عن الديموقراطية، وكان بعضها يقول إن الخبز أهم من الحرية، ويخلق نوعاً من المفاضلة الظالمة التي توقع الناس في حيرة تجاه مسألة الفارق بين الجوع والحرية.

وفي مقابل ذلك، نشأت الرواية كفن معارض يعبّر عن حالة عدم الرضا عن العالم الذي يعيش فيه المرء، وقد تجلى عدم الرضا هذا في اعتراض الرواية العربية بخاصة على الواقع الذي حفل منذ منتصف القرن العشرين بأنظمة الطغيان. وبرزت الاعتراضات الروائية على الوضع السياسي في العقود الماضية، حين أخذت تشير صراحة أو تلميحاً إلى حالة القمع وانتهاك الحرية من قبل الأنظمة العربية، أو كانت تبحث عن قيم العدالة التي ترتبط بالحرية، أو كانت تدين الممارسات التي تقيدها.

وفي الغالب، فإن هذا الطابع كاد يغلب على المضمون الروائي في تاريخ هذه الرواية، وقد توجّه ملاحظات إلى هذا النهج، ويرى بعض النقاد أنه شغَل الرواية عن مواجهة مشاكل النوع الأدبي وقضاياه. هذا محتمل، وربما شكّل عبئاً ثقيلاً على النوع وحرم الروائيين من متابعة العمل على تطوير الرواية فنياً، وهو أمر يعكس حجم الضغوط التي كانت تمارسها أنظمة الطغيان العربية، بحيث تبدو الرواية مثقلة بهذا الهم الكبير أكثر من غيره من الهموم الكثيرة الأخرى، أو تبدو كأنما قد أنيطت بها مهام حقول فكرية أخرى كان عليها أن تسدّد هذا الدَين لشعوبها.

في مؤلفه "الكاتب وواقعه"، يقرن الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا الرواية بالحرية. ويقول إننا لولا الروايات لكنا أقل إدراكاً لقيمة الحرية التي تجعل الحياة تستحق أن تعاش. وإن من العسير أن يبتلع البشر الأكاذيب التي تريد إقناعهم بأنهم يعيشون حياة أفضل، وأكثر أماناً داخل الأقفاص ووسط المحققين. ولكن، من الذي يريد إقناع البشر بأن من الأفضل لهم أن يعيشوا داخل الأقفاص؟

لطالما كانت الأنظمة تعادي الخيال. إذ تَعلم مخاطر إطلاق العنان للخيال في الكتب، وتعلم إلى أي حد تصبح الروايات مشاغبة عندما يقارن القارئ الحريةَ التي تُنتج هذه الروايات معرفةً بها، بالظلامية التي تترصده في عالم الواقع الذي تحكمه تلك الأنظمة.

المساهمون