الروابط الخفيّة

30 يونيو 2015
لوحة للفنان الأردني محمد الجالوس من مجموعة ذاكرة.
+ الخط -
في الوقت الذي كنت أتقصّى فيه عن تلك الأفعال المأساوية، اليومية، كنت أغوص في ماضي كاميليا، علّني أجد ما يشير، في صورة أو في أخرى، إلى غيابها. كانتْ كاميليا، شأنها شأن من عرفتهنَّ في هجرتي، شديدة الصدق والشفافية، في إدخالي، شيئاً فشيئاً، مع مرور الوقت، إلى ماضيها، من دون مراقبة أو تمويه، خلافاً لما يمكن أن يحدث في مجتمعي الأصلي، حيث للتقاليد والأعراف وسلّم القيم، عينٌ داخلية تراقب كلّ شيء في العلاقة مع الآخر، خصوصاً بين الرجل والمرأة، وتميّز بصرامة بين ما يمكن البوح به، وما يجب الاحتفاظ به سراً دفيناً. كان يخلق ذلك لديَّ ما يشبه عقدة الذنب تجاه كاميليا، وما يشبه الخوف عليها منّي. ولمداواة هذا الأمر، وانسجاماً مع روح العدل والتساوي في علاقتي بها، وكي أصير، في عرفي، أسيرَها، مثلما أضحتْ أسيرتي، عملتُ كثيراً، قدر ما استطعت، على إطفاء تلك العين في داخلي، وعلى كشف مكنونات نفسي أمامها، بكلّ ما فيها، ما جعلني متصالحاً، إلى حدّ بعيد، مع ذاتي ومعها. لا شكّ في أنّ كاميليا هي الشخص الأكثر معرفة بدواخلي في هذا العالم.
بعد مراجعتي، عن كثب، فصول حياتها، توقّفتُ عند أمرٍ كان يثير فيَّ قلقاً من زمان: علاقتها بذلك الشاب، الذي لم تذكر لي اسمه قطّ، احتراماً له، ولم أطلب منها معرفته، والذي قرّر، وهو في العشرين من عمره، تركَ العالم نهائياً، والانضواء في سلك "رهبان الصمت"، الذين يضيفون إلى النذور المعهودة، نذرَ الامتناع عن الكلام، فيمضون حياتهم في أديرة بعيدة، في عزلة تامّة، مكرّسين ذاتهم للصلاة والتأمّل، وللأعمال الزراعية والحرفية البسيطة. ويغلب لدى كاميليا الاعتقاد بأنّه التحق في حينه، بدير "سيّدة الثلوج" في جبال السيفين، ولم تعد تعرف عنه مذ ذاك شيئاً. سألتُها مرّة إذا كان راسلها بعد غيابه. أجابت بالنفي، لكنّها أضافتْ أنه كان يكتب لها كثيراً قبل ذلك، وهي تحتفظ بمجموع رسائله.
كانت كاميليا وهذا الشاب من عمر واحد، وقد عرف أحدهما الآخر منذ الطفولة، حيث اعتاد والداه، قبل انفصالهما، اصطحابه معهما إلى سولاك، كلّ صيف. وبعد طلاقهما، باتَ يرافق والده مرّة، ووالدته مرّة أخرى. لم تسرد لي كاميليا قصتها معه سرداً، بل كانت تأتي على ذكر هذا الجانب أو ذاك منها، من حين لآخر، في سياق أخبارٍ وموضوعات شتّى، وكنتُ أحفظ ما تقوله في نفسي.
لم يستمرّ طويلاً زواج والده، عالِم النبات، بوالدته، عازفة البيانو النمساوية، وكان هو ثمرته الوحيدة. آلمه انفصالهما كثيراً. أمضى طفولته ومراهقته مع أمّه، في مدينة كريمس، في منطقة فاخو، في وادي الدانوب النمساوي. وقد تأثّر عميقاً بروعة الطبيعة في تلك الأنحاء، الملائمة لشخصه الحالِم، المتأمِّل، الداخليّ النزعة، ولحبّه الموسيقى.
دامتْ علاقة كاميليا به طويلاً، من الطفولة إلى الصبا الأوّل. كان من يراهما يظنّ أنّهما خُلِقا ليكونا معاً. لكن الحقيقة لم تكن كذلك. كان ثمّة حبّ من طرفِ واحد. على الرغم من تقديرها العميق له، وإدراكها مزاياه ومواهبه الجمّة، وتعلّقها به كصديقها الأقرب طوال تلك السنين، فهي لم تكن تبادله الحبّ. كانت تلمس بوضوح رغبة والديها في أن ترتبطَ به، على الرغم من أنّهما لم يحدّثاها عن ذلك قطّ. لكن الأمرَ لم يكن في يدها. هكذا، لم يعترض والداها على دعوته لها، أكثر من مرّة، لمرافقته إلى فاخو، التي جالت معه في أنحائها، على ضفاف الدانوب الساحرة، وبين القرى القديمة، الوادعة، والتلال المكسوّة بالغابات وكروم العنب وجنائن المشمش، وباتتْ، مثله، كثيرة التعلّق بتلك المنطقة. وتدين له كاميليا بإسهامه في تقريبها من الطبيعة، كما في تذوّقها الموسيقى الكلاسيكية، إذ كانت تصغي طويلاً إلى عزفه، وعزف والدته على البيانو، واكتسبتْ، برفقتهما، محبّة خاصّة لأعمال باخ وليستْ وشوبرت، التي ولجتْ عالمَها الجمالي. كما تمرّستْ، عبره، في الثقافة الجرمانية، التي كان يعتبر فيينّا، وليس أي مدينة أخرى، عاصمتها الحقيقية. وأضحتْ لغة كاميليا الثانية هي اللغة الألمانية.

اقرأ أيضاً: مساء مونروج

سألتني كاميليا مرّةً، إذا كنتُ أؤمن بـ"الروابط الخفيّة". أجبتها بأن هذا الموضوع كثير الاتّساع والغنى، وهو يهمّني. فإذا كان الأمر يتعلّق بالتعبير الشعري، مثلاّ، لا شكّ في أنّ الحالة الشعرية قائمة، إلى حدّ بعيد، على الروابط الخفيّة بين الأشياء، فيما يتخطّى الوعي والعقل، نحو عوالم فسيحة، عميقة، نائية، غير خاضعة لسلطة الإدراك والمنطق، لكنّها موجودة فعلاً، يحسّ بها الشاعر ويراها، ويطمح إلى التعبير عنها. لكنّه، في الحقيقة، لا يستطيع التعبير إلاّ عن جزءٍ بسيط منها. لكن هذا الجزء يكون كافياً لتضمين تعبيره، السرّ والسحر. أقصد هنا، قلتُ لها، الشعر الحقيقي، وهو نادر للغاية، وليس الفيض المتكاثر ممّا يوصف بـ"الشعر"، الذي يخفي فقدانه الجوهر الشعري، بصيغ وألاعيب شكلانية مصطنعة، لا طائل تحتها. وأضفتُ بأن الروابط الخفيّة كامنة في عمق كلّ الفنون، وكلّ العوالم الجمالية، وليس في الشعر فقط. لكن التعبير عن هذه الروابط يفترض "رؤيتها"، وليس افتعالها، كيفما اتّفق. فالمبدع هو الرائي. وهنا يكمن الفارق الجوهري بين الابداع وظواهر التعبير الأخرى، وما أكثرها .
لكنّي، سرعان ما أدركتُ بأنّ كاميليا لا تقصد ذلك قطّ. كانت تتحدّث عن أمرٍ، على علاقة بذاك الشاب. أخبرتني أنه كان شديد الاهتمام بتاريخ آل هابسبورغ. ومن ضمن تعلّقه بفيينّا، المدينة الأحبّ إلى قلبه، التي كان يعرف عنها كلّ شيء تقريباً، كان شديد الأسف لكونها فقدتْ أسوارها. كان يعيب كثيراً على فرانز جوزف الأوّل، القرار الذي اتّخذه بهدم تلك الأسوار، في عام 1857. ومن بين الأحداث التي لا تُحصى، التي طبعتْ حياة آل هابسبورغ، كان يتوقّف عند حدثين اثنين آخرين، يوليهما أهميّة كبرى: انتحار وليّ العهد، الأمير رودولف، مع عشيقته، عام 1889، وهو في الثلاثين من عمره، ومصرع والدته، الإمبراطورة اليزابيت، في جنيف، على يدّ فوضوي إيطالي، عام 1898.
لكنّ الأمر لم يتوقّف عند حدود الاهتمام. كان يعتقد بوجود صلات غير مرئية، بين تلك الأحداث الثلاثة: هدم أسوار فيينّا، وانتحار رودولف وعشيقته، واغتيال أليزابيت. وقد جمع كمّاً هائلاً من المعلومات عنها، وكان يعكف على وضع كتاب، عمل عليه سنينَ، عنوانه "الروابط الخفيّة".
لكن في وقتٍ ما، بدأ ينتقل شيئاً فشيئاً، من الاهتمامات التاريخية، إلى الاختبارات الروحية، وصولاً إلى انضمامه النهائيّ إلى "رهبان الصمت". لكنّي، لم أعرف قطّ - وكاميليا لم تعطني إشارات توضح ذلك - ما إذا كان قراره سلوك طريق الترهّب القاسي، مرتبطاً بعدم تجاوبها مع حبّه، أم لا.
عند توقّفِ القطار في محطته الرابعة، انقشع الجوّ قليلاً. داهمني شعورٌ غريب بالقلق من جرّاء ذلك، وأدركتُ، على الرغم ممّا أنا فيه، كم أنا مرتاحٌ ومطمَئن لعالم الضباب. لكن ما لبثتْ أن وصلتْ إليَّ، فجأةً، زقزقة عصفور، من على شجرة قريبة وراء نافذة القطار. قلت في قرارتي: "أية بهجة لا توصَف، أية رحمة، أيّ نداء إلى عالم لا يُحَدّ، هي تغريدة هذا العصفور الواحد، تغريدته القويّة، الواثقة، النقيّة، الصافية، الشفّافة، وأنا أحمل ذاتي المتألّمة إلى تلك القرية البحرية النائية، التي لن أحصدَ فيها، كما في كلّ مرّة، إلاّ الأوهام".
(روائي لبناني)
المساهمون