اندهش السافي من معرفة الزائرين اسمه ومعلومات عنه، منها معاناته من البطالة منذ 5 أعوام، بعدما حصل على شهادة جامعية في مجال التربية البدنية، لكن الدهشة سرعان ما تبددت بعدما قالوا له في حضور العائلة: "لديك مستوى علمي جيد وبإمكانك التأثير على سكان منطقتك وإقناعهم بالتصويت لحزبنا مقابل تشغيلك والعناية بمنطقتك المنسية وتحسين ظروفكم"، كما يقول في شهادته التي وثّقها "العربي الجديد" عبر مقطع مصوّر.
ورفض أيمن المقترح لأن هذه الوعود لم تعد تنطلي عليهم، إذ لم تكن تلك الزيارة فريدة من نوعها، بعدما اعتاد وأهالي منطقته على تكرار تلك التصرفات من ممثلي أحزاب مختلفة قبيل الانتخابات للحصول على أصوات أهالي المناطق المهمشة، عبر دعوة الشباب العاطل عن العمل إلى منحهم أصواتهم، مقابل وعود كاذبة بتشغيلهم وتهيئة المساكن والنهوض بأوضاعهم الاجتماعية الصعبة كما يقول، مضيفاً أن نفس الأمر تكرر في الانتخابات البلدية التي أجريت في 2018.
التصرفات السابقة يحذّر منها شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الحكومية والذي يرفض محاولات التلاعب بإرادة الناخبين وتدخل المال الفاسد وشراء الأصوات عبر تقديم الأموال والتأثير على الناخبين ليصوتوا لأحد المرشحين، بعد أن قطعت تونس شوطاً مهماً في عدم تزييف صناديق الاقتراع.
مخالفات يوم الاقتراع
رصدت هيئة مكافحة الفساد 600 مخالفة وقعت يوم الاقتراع في 15 سبتمبر/ أيلول الماضي، من بينها 12 مخالفة تتعلّق بتوزيع الأموال في تونس وسوسة ومنطقة أريانة شمال غربي العاصمة، بحسب تأكيد الطبيب، والذي قال لـ"العربي الجديد" إن محاولات رشوة تمت من قبل مندوبي مرشحين، وهو ما اقتضى إحالة 3 قضايا للنيابة العمومية، واحدة حالياً في عهدة القضاء، وهو ما أكده نبيل بفون رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والذي أشار إلى أن عدد مخالفات شراء الأصوات التي أحالتها هيئة الانتخابات إلى النيابة العمومية 3 مخالفات، منها واحدة جرت وقائعها في أريانة وأحيلت إلى القضاء، من إجمالي 650 مخالفة متعددة، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن الهيئة لن تتردد في إسقاط بعض المرشحين للانتخابات التشريعية إذا كانت التجاوزات جسيمة.
إلى جانب التجاوزات السابقة وثّقت معدة التحقيق 25 محاولة لشراء أصوات ناخبين، منها 8 محاولات سجلها مرصد شاهد لمراقبة الانتخابات ودعم التحولات الديمقراطية في تونس (تأسس في عام 2011) بتونس العاصمة وصفاقس بالوسط التونسي، و4 حالات وثقتها جمعية شبكة مراقبون (تأسست في 2014 لدعم إرساء مبادئ الانتقال الديمقراطي) في وسط الجمهورية.
ويؤكد المدير التنفيذي لمرصد شاهد، المحامي ناصر الهرّابي لـ"العربي الجديد": "ضبط حالات توزيع أموال، ومحاولات رشوة لناخبين، منها حالة إيقاف لشخص بصدد توزيع أموال داخل مكتب الاقتراع، كما جرى رصد 3 سيارات بمنطقة فوشانة التابعة لولاية بن عروس جنوبي العاصمة، تابعة لأحد المرشحين وزعت أموالاً على الناخبين.
وفي حي باب سويقة الشعبي بالعاصمة، تم ضبط ممثل لمرشح للرئاسية وزوجته وهما بصدد توزيع أموال داخل مكتب اقتراع بحسب الهرابي، وقد أشار إلى أن رئيسة المكتب تولّت تحرير محضر بالحادثة.
وتؤكد وثيقة حصرية، (حصل عليها "العربي الجديد" من مرصد شاهد)، ضبط ممثل عن المرشح للرئاسة نبيل القروي الحائز على المرتبة الثانية في المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية (موقوف على ذمة العدالة)، عندما كان بصدد توزيع أموال بمكتب الاقتراع في مدرسة التعمير في أريانة، فضلاً عن ضبط 3 سيارات تابعة للمرشح المستقل حاتم بولبيار الذي حاز على المرتبة الأخيرة من إجمالي 26 مرشحاً، أثناء توزيع الأموال على الناخبين بمركز الاقتراع في حي الزيتون في منطقة فوشانة.
وتشير الوثيقة ذاتها إلى ضبط شخص في مكتب الاقتراع في مدرسة بمنطقة الكبارية وسط تونس، وعد الناس بمنحهم 70 ديناراً تونسياً (25 دولاراً أميركياً) للتصويت لرئيس الحكومة ومرشح تحيا تونس يوسف الشاهد، بعد أخذه نسخاً من بطاقات الهوية، إضافة إلى محاولة شراء أصوات بمكتب الاقتراع في مدرسة الحبيب بورقيبة بصفاقس لصالح نفس المرشح، وفقاً للوثيقة.
لكن مرشح الرئاسيات حاتم بولبيار يقول إنه لا يعلم بحصول أي مخالفة متعلقة به، مؤكداً في ردّه لـ"العربي الجديد" أنّ هذه الاتهامات غير صحيحة، وكان الأنسب تحديد هذه السيارات، وهل تم تأجيرها أم لا، لمعرفة الجهة التي تتبعها أو تدوين رقم القضية إن فتح تحقيق.
ورد حاتم المليكي، مدير الحملة الانتخابية لنبيل القروي، هذه الاتهامات بالقول: "البعض قد يتعمّد افتعال حوادث تتضمن توزيع أموال فقط لتوريط مرشح ما بهدف إسقاطه"، وتابع: "نندد بالمضايقات والإشاعات التي ما فتئت تتطاول على مرشحنا، ومن يرصد خروقات يوجهها إلى هيئة الانتخابات ثم إلى القضاء، كونه الجهة الوحيدة المخول لها البت في مثل هذه المسائل"، فيما رفض مسؤولو حزب تحيا تونس الرد على ما جاء في الوثيقة، رغم اتصال معدة التحقيق بوفاء غواري عضوة المكتب الإعلامي للحزب، التي أخبرتها أنها أبلغت المسؤولين في الحزب.
إفلات من العقاب
تراوحت المبالغ التي تم توزيعها بين 50 ديناراً (17 دولاراً) و100 دينار (35 دولاراً) كما يقول الهرابي والطبيب والذي أشار إلى رصد مخالفات أخرى تتعلّق بنقل الناخبين باستعمال وسائل النقل الجماعي في منطقة باب الجديد وحي الطيران في قلب العاصمة، واستخدام السيارات الإدارية، مضيفاً أن قاضياً وثّق الحادثة بواسطة عدل منفذ وأدلى بشهادته لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وهو ما تؤكده أنوار منصري، عضوة رابطة الناخبات التونسيات (تُعنى بتوعية النساء للمشاركة في الحياة السياسية ومراقبة الانتخابات) والتي رصدت نقل الناخبين بوسائل نقل خاصة للحصول على أصواتهم، مشيرة إلى أن جميع هذه المخالفات تم رفعها إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات باعتبارها جرائم انتخابية.
وأحالت الهيئة الفرعية للانتخابات بأريانة في العاصمة في 14 سبتمبر/ أيلول الماضي، رئيس قائمة مرشحة للانتخابات التشريعية إلى القضاء، بعد ضبطه من قبل الهيئة بينما يقوم بشراء أصوات الناخبين لصالح مرشح للرئاسة بحسب تأكيد سفيان العبيدي عضو هيئة الانتخابات لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى أن القضية ما تزال جارية.
لكن غياب المحاسبة يكرّس الإفلات من العقاب، كما يقول القاضي الإداري وعضو هيئة النفاذ إلى المعلومة (حكومية)، عصام الصغير، مستدركاً في إفادته لـ"العربي الجديد": "في غياب الآليات والإمكانات اللازمة للبت في الملفات المحالة إلى القضاء، لن يتمكن هذا الأخير من إصدار أحكام ضد المخالفين".
ويعطي القضاء الأولوية دائماً للقضايا التي فيها موقوفون على حساب بقية القضايا، نظراً إلى غياب الإمكانات وتوفر العناصر البشرية اللازمة للنظر في الجرائم الانتخابية بحسب الصغير، والذي أقرّ بأن القضاء غير قادر على ممارسة مهامه والنظر في كل الملفات الواردة إليه، نظراً إلى وجود آلاف القضايا التي عليه النظر فيها، فضلاً عن أن الملفات الواردة من قبل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، أو الهيئة العليا للانتخابات، تعدّ قضايا تحقيقية ولا بدّ من البحث والتحري بخصوصها، مؤكداً أن أغلب القضايا ترد من دون موقوفين، وبالتالي تتطلّب عدة أبحاث لإثبات التهم، علماً أن هناك قضايا تتعلق بانتخابات 2014 لم يتم النظر فيها أو إصدار أحكام بشأنها إلى يومنا هذا.
وينص الفصل 161 من القانون الأساسي الانتخابي المنشور في عدد مايو/ أيار 2014 من جريدة الرائد التونسي الرسمية على أنه: "يعاقب بالسجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبخطية مالية من ألف إلى 3 آلاف دينار كل شخص تمّ ضبطه بصدد تقديم تبرعات نقدية أو عينية قصد التأثير على الناخب أو استعمل نفس الوسائل لحمل الناخب على الإمساك عن التصويت، سواء كان ذلك قبل الاقتراع أو أثناءه أو بعده"، ولو علم كل مخالف أنه سيسجن لاقترافه جريمة انتخابية، فإنه ساعتها سيكون هناك ردع، لكن ستتكرر نفس الممارسات مع كل انتخابات، كما يقول الصغير ومحمد مرزوق رئيس جمعية شبكة مراقبون والذي أضاف لـ"العربي الجديد": "طالما لم يتم فضح التجاوزات المتعلقة بشراء الأصوات فإن نفس الممارسات ستتكرر".
وسبق لهذه الجمعية رصد مخالفات في انتخابات 2014 متعلقة بشراء الأصوات، وعدم احترام تمويلات السقف الانتخابي، لكنها تكررت في انتخابات 2019.
مخالفات تهدد الانتقال الديمقراطي
أجمع جلّ المشاركين في التحقيق على أن شراء الأصوات ومحاولات التأثير على الناخبين والمال السياسي الفاسد عناصر تهدّد الانتقال الديمقراطي، ولكن لا تزال هناك صعوبات عدة في تقفّي أثر هذا المال وإثبات مثل هذه التجاوزات على اعتبار أن هذا المال يبقى خارج الأطر القانونية ولا يتم تسجيله ضمن نفقات المرشحين أو الأحزاب.
وبعد تدقيق مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في أغلب المحاضر التي وردت إليها من قبل المراقبين والملاحظين، سواء أثناء الحملة الانتخابية أو خلال الاقتراع، فإنّ الهيئة رأت أن هذه المخالفات لن تؤثر على نتائج الانتخابات، وفق تأكيد عضو الهيئة القاضية حسناء بن سليمان.
وتؤكد سليمان لـ"العربي الجديد" أن توزيع الأموال وشراء أصوات الناخبين يعد جريمة. لكن لم تتحول إلى ظاهرة وتتم بنسق متواتر ولا تشمل كل الناخبين بما ينال من مصداقية الأصوات، ولهذا اعتبرتها الهيئة غير مؤثرة في النتائج كما تقول.
لكن الهرابي يقول: "على الرغم من عدم ملاحظة أي محاولات لتزييف الصناديق، لكن ضروري التنديد بمحاولات شراء الأصوات للحيلولة دون تكرار الظاهرة مستقبلاً".
ويأمل رئيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس، الدكتور مهدي مبروك الكشف عن بعض أنواع المخالفات التي تندرج ضمن الجرائم الانتخابية لعدم تكرارها مستقبلاً، خاصة وأن تونس مقبلة على انتخابات تشريعية، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن هذه الجرائم ربما قد لا يكون لها تأثير على النتائج بحسب هيئة الانتخابات. ولكن الأخطر من تزييف الصناديق هو تزييف إرادة الناخبين وتوجيههم والتأثير عليهم كما يقول.
اللافت أن محاولات شراء الأصوات لم تتم عبر توزيع الأموال فقط بل رصدت جمعية "ملاحظون بلا حدود" حالات تتعلّق بتوزيع وصولات شراء كتب مدرسية بتونس الكبرى بحسب رئيسة فرع تونس هاجر الشابي، والتي قالت لـ"العربي الجديد": "وثقنا تلك المخالفات رغم وجود صعوبات في الحصول على اعترافات من الناخبين أو من الأشخاص الذين يقومون بشراء الأصوات عند مواجهتهم".