الرد الغربي على موسكو: تحول خارج التوقعات الروسية

28 مارس 2018
رحبت لندن بالتضامن الكبير من حلفائها معها (ليون نيل/Getty)
+ الخط -
جاء الوصف البريطاني بـ"نقطة تحوّل" كتعبير صريح لحملة طرد الدبلوماسيين الروس في الغرب، والتي توسعت إلى 24 دولة لتطاول أكثر من 100 دبلوماسي، في خطوة تضامنية مع لندن على خلفية الاتهام الموجّه لموسكو بتسميم العميل المزدوج السابق سيرغي سكريبال على الأراضي البريطانية باستخدام مادة كيميائية ذات استخدام عسكري.
وتُعد عمليات طرد الدبلوماسيين الروس هذه الأكبر منذ عام 1971، عندما طردت بريطانيا 90 دبلوماسياً سوفييتياً من طاقم السفارة البالغ حينها 550 شخصاً، وهي خطوة تلت انشقاق العميل الروسي أوليغ ليالين من الاستخبارات السوفييتية "كي جي بي" وتسبّبت بضرر بالغ للعمليات الاستخباراتية السوفييتية في بريطانيا. وانضمت أستراليا، أمس، إلى الولايات المتحدة وحلفاء آخرين لبريطانيا، وقررت طرد دبلوماسيَين روسيَين اثنين. وقال رئيس الوزراء الاسترالي مالكولم تورنبول، إن "هذا القرار يعكس الطبيعة الصادمة للهجوم (على سكريبال)، وهو سلوك خطير ومتعمد من الدولة الروسية يشكل تهديداً متزايداً للأمن الدولي". كما أعلنت أيرلندا طرد دبلوماسي روسي رداً على الهجوم. كذلك أعلن حلف شمال الأطلسي طرد 7 دبلوماسيين روس ورفض 3 طلبات اعتماد.

واحتفى الساسة البريطانيون بالدعم الذي تلقوه من حلفائهم الغربيين، فقالت رئيسة الوزراء تيريزا ماي، في كلمة لها في البرلمان البريطاني: "لقد وجدت تضامناً كبيراً من أصدقائنا وشركائنا في الاتحاد الأوروبي وشمال أميركا والناتو وأبعد من ذلك، في الأسابيع الثلاثة الماضية خلال تعاملنا مع تبعات الهجوم في سالزبري". وتابعت "أرسلنا سوية رسالة مفادها أننا لن نتساهل مع محاولات روسيا المستمرة لتجاهل القانون الدولي وتقويض قيمنا".

أما وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، فقد نشر مقالاً في صحيفة "ذي تايمز" وجّه فيه الشكر لحلفاء بريطانيا الذين وقفوا إلى جانبها في وجه الاعتداء الروسي، على الرغم من احتمال الرد الروسي ضدهم، محتفياً أيضاً بالضرر الذي ستلحقه عمليات الطرد هذه بالقدرات التجسسية الروسية. وكتب جونسون في الصحيفة: "لم يُقدم هذا العدد من الدول أبداً في الماضي على طرد دبلوماسيين روس" في خطوة اعتبرها بمثابة "ضربة ستحتاج الاستخبارات الروسية لسنوات عدة قبل التعافي منها". وأضاف: "أعتقد أن أحداث الأمس قد تصبح نقطة تحوّل"، مضيفاً أن "التحالف الغربي اتخذ تحركاً حاسماً، ووحّد شركاء بريطانيا صفوفهم في وجه طموحات الكرملين المتهورة".

روسيا من جهتها، اعتبرت على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، أن قرار طرد الدبلوماسيين الروس هو نتيجة "ضغوط هائلة" من واشنطن. وقال لافروف في لقاء صحافي في طشقند بثه التلفزيون الروسي "عندما نطلب من دبلوماسي أو اثنين مغادرة بلد ما ونحن نهمس بالاعتذار، فنحن ندرك تماماً أنه نتيجة ضغوط هائلة وابتزاز هائل يشكلان للأسف السلاح الرئيسي لواشنطن على الساحة الدولية". وتابع: "كونوا على ثقة بأننا سنرد! فلا أحد يريد السكوت على مثل هذا السلوك، ولن نقوم بذلك".

أما الصحف الروسية فرأت، أمس الثلاثاء، أن تنفيذ طرد الدبلوماسيين الروس يغرق العلاقات بين موسكو والغرب في "حقبة جديدة من الحرب الباردة". واختارت صحيفة "إزفستيا" عنوان "تعبئة حاشدة معادية لروسيا"، فيما ذكرت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" أنه لم تحدث من قبل حركة طرد منسقة بهذه الطريقة. وكتب المحلل فيودور لوكيانوف في صحيفة "فيدوموستي" أن "العلاقة بين روسيا والغرب تدخل مرحلة حرب باردة بالفعل"، ورأى أن عمليات الطرد "سيكون لها أثر مدمر تحديداً على العلاقات الروسية الأميركية". وأضاف أنها "ليست نهاية التصعيد، من الواضع أن الأمر سيتفاقم ويُتوقع ان تتخذ تدابير أقسى مما قبل، (وتفرض) عقوبات اقتصادية ضد روسيا". بينما قالت إذاعة "صدى موسكو" المستقلة إنه "كلما ساءت العلاقات بين روسيا والغرب، تحسن وضع الرئيس (فلاديمير بوتين)، فإذا كنتم في قلعة محاصرة عليكم على الدوام أن تقوموا بأعمال استفزاز للتسبب بشن هجمات عليكم وإلا فستخسرون شرعيتكم".

وكان نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أعلن أن بلاده تحضر لرد قوي على طرد دبلوماسييها من الولايات المتحدة، فيما أصدرت وزارة الخارجية الروسية بياناً لاحقاً اعتبرت فيه طرد دبلوماسييها "خطوة غير ودودة" مبنية على التحالفات بدلاً من الأدلة. وقالت إن "هذه الخطوة الاستفزازية لما يبدو أنه التضامن بين هذه الدول مع لندن، والذي يتّبع بشكل أعمى السلطات البريطانية في ما يعرف بقضية سكريبال، والتي لم تتمكن أبداً من معرفة ما جرى فعلاً، هي استمرار للمواجهة التصادمية وتصعيد للموقف".


هذا البيان يحمل ثلاث نقاط تمثل جوهر المقاربة الروسية في التعامل مع الدول الغربية. أول هذه النقاط وأهمها هو الاعتقاد الروسي بضعف التحالفات الغربية، ومحاولتها اللعب على نقاط الخلاف بينها. وانتظرت روسيا أن ينفرط عقد التضامن الغربي الأولي مع بريطانيا، خصوصاً عندما اتخذت خطوات حاسمة في ردها على طرد بريطانيا للدبلوماسيين الروس. وربما يمكن تبرير هذا الانطباع الروسي لظهور بريطانيا كدولة معزولة وضعيفة بسبب التوتر في العلاقات البريطانية الأوروبية بسبب "بريكست"، وربما أيضاً تراجع "العلاقة الخاصة" بين بريطانيا والولايات المتحدة في ظل التجاذب والتنافر بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وماي.

إلا أن نقطة التحول الفعلية في السياسة الغربية كانت بعد إصدار الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا بياناً مشتركاً يوم 15 مارس/ آذار الحالي، حمّلوا فيه روسيا المسؤولية التامة عن الاعتداء، مؤكدين أن "لا تفسير منطقياً آخر". وربما يعود التحول في مواقف هذه الدول إلى معلومات استخباراتية سرية تقدمت بها بريطانيا. كما أن بريطانيا فاجأت الجميع أيضاً بنجاح آلتها الدبلوماسية في حشد الدعم الغربي إلى جانبها، إذ تمكنت من إقناع حلفائها بتبنّي روايتها وطرد الدبلوماسيين الروس، بينما كانت التوقعات منحصرة ببيانات تضامنية.

أما النقطة الثانية، فهي الحرب الهجينة غير التقليدية التي تشنّها روسيا ضد الدول الغربية في السنوات الأخيرة، وهو ما تسبّب بحالة من الغضب ضدها والإحباط من عدم القدرة على الرد ضدها، خصوصاً في ظل الإنكار الروسي المتكرر لعمليتها التخريبية. فمحاولة اغتيال سكريبال كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. سبق ذلك تعرض الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للقرصنة الإلكترونية، في محاولة لدعم مرشحة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان. كما تمت قرصنة محطة "تي في 5 موند" الفرنسية ووقف بثها كلياً عام 2015، على يد قراصنة روس.

كما حاول جيش المتصيدين الروسي الإلكتروني التلاعب بالانتخابات الأميركية عام 2016، عدا عن التحقيقات التي لا تزال مستمرة إلى الآن. أما ألمانيا، فقد تعرضت وزارة خارجيتها للقرصنة الشهر الماضي، ما تسبب في تعطيل أجهزتها الحاسوبية. كذلك قالت وزارة الدفاع البولندية إن مؤسساتها عرضة لهجوم إلكتروني جدي أسبوعياً في الأشهر الستة الماضية، بينما وجدت الحكومة الليتوانية برامج تجسس روسية في أجهزتها. أما إستونيا فقد تعرضت عام 2007 إلى موجة استمرت ثلاثة أسابيع من الهجمات الإلكترونية. وفي كل هذه الحالات، نفت روسيا مسؤوليتها. وبالطبع لا يخفى على أحد الدور الروسي في تعطيل مجلس الأمن في ما يتعلق بسورية، بل تجاهل قراراته حيالها، أو ضمها للقرم وتحويلها أوكرانيا إلى دولة شبه فاشلة، وهو ما فاقم من الحنق الغربي تجاه الدور الروسي دولياً.

وفي ما يتعلق بقضية سكريبال، خرج المسؤولون الروس بروايات مختلفة تهدف إلى التشويش والتضليل، ومنها ما يهدف إلى الاستهزاء، كالقول إن سكريبال تناول جرعة مفرطة من السم الذي يدمنه، أو الحديث المؤامراتي بأن أميركا فعلتها بهدف زعزعة الاستقرار العالمي، أو محاولة لتعزيز الشعور القومي الروسي من خلال تبرير وجود مؤامرة ضد روسيا بأن بريطانيا تسبّبت بتسميم مدينة من مدنها للتخريب على كأس العالم في روسيا.

وتلك هي النقطة الثالثة في المقاربة الروسية: إقناع المواطن الروسي بعظمة الدولة الروسية التي يتآمر ضدها الغرب. فروسيا تشعر بأنها فقدت مكانتها السابقة، وتتابعت خسائرها على الساحة الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. ويعتقد بوتين أن بإمكانه استعادة مكانة روسيا من خلال افتعال الأزمات التي لا تصل إلى مستوى المواجهة المباشرة مع الغرب.
ربما لن تقود قضية سكريبال إلى المزيد من التصعيد الغربي ضد روسيا، وبالتأكيد سيتراجع الاحتقان مع اقتراب كأس العالم لكرة القدم، والذي سيتطلب تعاون هذه الدول لتيسير دخول المشجعين إلى روسيا وسلامتهم هناك. كما أن دولاً أوروبية، مثل سلوفاكيا وسلوفينيا وبلغاريا واليونان وقبرص ومالطا والبرتغال والنمسا رفضت المشاركة في طرد الدبلوماسيين الروس، بينما تمهلت دول أخرى، مثل بلجيكا، في اتخاذ أي قرار حتى تجتمع حكوماتها. إلا أن التحالف الغربي الذي جمعته الدبلوماسية البريطانية يرسل رسالة واضحة لروسيا بوتين مفادها أن روسيا تمتلك نفوذاً محدوداً جداً وأن أيام الاتحاد السوفييتي قد انتهت.