الرحلة 6752: رعب بين أضنة وبيروت

17 اغسطس 2014
موسم اختفاء الطائرات أو تحطّمها (Getty)
+ الخط -
بيروت، مطار رفيق الحريري الدولي: تمّ تأكيد الحجز وتسليم الحقائب. عشرون دقيقة تفصلنا عن موعد الرحلة إلى مدينة أضنة التركية. توجّهنا نحو البوابة 17. نظرةٌ سريعةٌ رميتها إلى جواز السفر، وأصبحت في الممرّ الذي يصلنا بالطائرة المنشودة. لكنّ نهاية الممرّ قادتنا إلى مدرج المطار، ومن هناك اتجهنا سيراً على الأقدام نحو الطائرة.

هي صغيرة نسبياً، لها مروحتان في جناحيْها ويلزمك تخطّي أربع درجات كي تدخل إليها. تُستعمَل فقط للرحلات القصيرة، إلى الأردن مثلا أو إلى سورية وتركيا وقبرص... وها هي الرحلة 6752، التي تحملنا إلى أضنة التركية. انتابني شعورٌ بالتردّد والخوف. لكن لا مجال للتراجع. لا شيء سوى طائرة خُيّل إليّ لوهلةٍ أنّها مشروع طائرة "إندونيسية"، أو "نيجيرية"، أخرى قد تختفي بين بيروت وقبرص. 

جلس الركاب في مقاعدهم بصمت، الجميع مستعدّ للإقلاع، الهواتف مغلقة والمضيفتان تتفقّدان المقاعد للمرّة الأخيرة. مع شيوع أخبار اختفاء وتحطّم طائرات عديدة خلال الأسابيع الماضية، كان لا بدّ لنا من توجيه أسئلة الخوف إلى المضيفة، التي تفرض عليها مهنتها طمأنتنا، طبعاً بلهجتها الإنكليزية "المكسّرة". طلبت منا شدّ أحزمة الأمان والاستعداد للانطلاق.

حجم الطائرة الصغير يُتيح لك فرصة الاستماع إلى تفاصيل دوران محرّكاتها، ومراقبة المروحتين. سيناريو مخيف ترسمه مخيّلتك، وأنت جالس قرب الشباك في المقعد 17: "ماذا لو توقّفت مروحة عن العمل؟ هل ستتحطّم الطائرة؟".

مّرت عشرون دقيقة ولم تنطلق الطائرة، ألقيتُ نظرةً عبر النافذة الصغيرة مرّةً أُخرى محاولةً تجاهل المروحة البارزة على جناح الطائرة.. وإذ بشابٍ يجلس على أرض المدرّج ويصرُخ هستيرياً. لم أستطع سماع كلماته، فحاولت قراءة شفتيه، وفشلتُ أيضاً.

ساعده عنصر من الأمن العام اللبناني على تفقّد الشنط مرّة أخيرة: لقد فقد الشاب أوراقه الثبوتية والمال الذي يملكه خلال تجوّله في المطار. عاد عنصر الأمن العام إلى داخل قاعة الانتظار برفقة الشاب. أما في الطائرة الصغيرة، فبدأ الركاب يرسمون سيناريوهات الموت المحتّم، بظنّهم أنّ هناك خللا ما في المحرّك.

عاد الشاب إلى مدرج المطار، سُحِبَت شُنطه من الطائرة، مما استغرق وقتاً إضافياً. في مقدمة الطائرة سيدةٌ حاولت ترجمة إجابة المضيفة التركية عن أسباب التأخير: "يبدو أنّ هناك خللا ما". ابتسم الركّاب، مما زادني رُعباً: "اختيار هذه الرحلة كان خطأ رهيبا".

أُغلقت الأبواب وأُدير محرّك الطائرة. فيما راقبتُ المروحتين، اللتين تصدران صوتا، كان وحده كفيلاً بنشر الرعب، همستُ في أذن صديقتي: "ستحملنا هذه الطائرة من بيروت إلى أضَنَة، فوق البحر، بواسطة مروحتين.. يا عين!". انتابني ألم في المعدة، وازداد الصداع، شغلتُ نفسي بالاستماع إلى أغنية، علّ ضجيج الموسيقى يتفوّق على أصوات محرّكات الطائرة. ثم فسّرت المضيفة، بسرعة واختصار، إجراءات الأمان في الطائرة ودلّتنا إلى مخارج الطوارئ وأمكنة أقنعة الاوكسيجين. هي تفاصيل لم أكن في حاجة إلى معرفتها  خلال انطلاق رحلة الرّعب. 

حلّقت الطائرة، فحبستُ أنفاسي وتمسّكت بمقعدي. أحسستُ بارتفاعها عن الأرض شيئاً فشيئاً، إلى أن حلّقت في خطّ مستقيم. حينها تنفّسنا الصّعداء وأقسمتْ صديقتي أنّها رحلتنا الأخيرة على متن هذه الطائرة.

وصلنا  في النهاية إلى أضَنَة. وسريعاً انتهى الأسبوع... فإلى رحلة العودة. الرحلة بحدّ ذاتها تبعث على الخوف ذاته. ومرّة جديدة هناك المعقد، والمراوح، والسيناريو ذاته يرسم نفسه في أذهاننا. همستُ لصديقتي مجدداً وبسُخرية: "كان لا بدّ من أن نصطحب معنا دولاب السباحة وعدّة البحر، تحسّباً من سقوط الطائرة".

لم تنجح الوجبة اللذيذة، التي قدّمتها المضيفة، في تشتيت خوفنا. استمررتُ في مراقبة المروحتين، وكان يُخيّل إليّ أنّ إحداهما توقّفت عن العمل.. لأعود وأتفقّد الساعة متمنيّةً انقضاء الوقت سريعاً.

وصلنا إلى مطار رفيق الحريري الدولي. هرعتُ إلى باب الطائرة، احتفاءً بوصولنا الى برّ الأمان سالمَتيْن، فيما عادت الرحلة 6752 إلى أضنة محمّلةً بدُفعةٍ جديدة من الرّكاب.
المساهمون