الرجل يغيِّر مساره!

06 فبراير 2019
+ الخط -
يُعد الطريق من الفم إلى المعدة من أكثر طرق العالم حيوية، وفي حالة الطوارئ يحدث تحويل مروري لكنه مؤقت، مع ضرورة العودة إلى الطريق الرئيسي في أسرع وقت، وقبل اليوم لم نسمع عن الطريق السريع بين المعدة والعقل؛ فهل هذا كلام يدخل الدماغ؟!

أفاض الحكماء، أمثال الشيف حسن والشيف شربيني والعلامة أسامة السيد، في تفصيل الطريق الأقرب إلى قلب الرجل، وبدأت رحلات الطواجن والمحمر والمشمر تعبِّد الطريق، لكن تعليمات المرور الجديدة تشير إلى وجود مجموعة من البكتيريا الأرزقية في محطة المعدة، وهذه المعدة منها الطيب ومنها الشقي. وقبل سنوات، درس العلماء العلاقة بين المعدة وآفات على طريق الجسم البشري، منها السمنة والسكري والخرف وسرطان القولون ومتلازمة القولون العصبي. لكن اليوم، اكتشف العلماء أن تأثير البكتيريا الأرزقية في المعدة ممتد إلى الدماغ، وأنها تؤثر على الصحة النفسية.

وضعت رأسي بين كفّي وأنا ذاهل عن نفسي؛ فلم ننته بعد من ماراثون القولون العصبي، والآن ندخل في دوامة الاكتئاب من طريق المعدة! كان عنده حق عمّنا محمود السعدني لما قال "طريق الأطباء آخر الطرق التي أمشيها، وأذهب إليها مرغمًا ليس إلا"، ومن قبله موليير الذي نكّد عليه الأطباء وسبّبوا له عقدة نفسية، وكتب يسخر منهم في عدد من مسرحياته، لكن لا عمّنا السعدني ولا موليير حلا المشكلة، ثم أستاذنا بلال فضل أجاب أمس عن سؤال: لو أغمضت عينيك الآن، ما الشيء الذي ستفكر فيه؟ فقال بالفم المليان (انتهاء الإمساك). وردًا على سؤال: ما أكثر شيء تندم عليه في حياتك الشخصية؟ قال: عدم الاكتراث بالصحة في شبابي المبكر.


وهذا الكلام يسيِّب الرُّكب، نحن نضع أغلب همومنا في الأكل؛ أمعقول أن نلجأ إليه ثم يُسلِمنا للاكتئاب؟! بقى ده كلام يا عالم؟! أغاظني البروفيسور جيروين رايز (الأستاذ في مركز VIB-KU Leuven للميكروبيولوجي بجامعة لوفان البلجيكية) وتخصص في نقض نظرية "الطريق إلى قلب الرجل"؛ ففي عام 2015 خرج علينا بتأكيد العلاقة بين بكتيريا الجهاز الهضمي ومرض كرون، وهو أحد أنواع التهاب الأمعاء.

اليوم -في أول وأكبر دراسة من نوعها- يورِّط المعدة في الاكتئاب، الله يسامحك يا بروف! ويرى أن بكتيريا الأمعاء قد تؤثر على سلامتنا العقلية، ويمكن أن تكون مرتبطة بالاكتئاب، ونشرت نتائجها المثيرة للجدل في دورية Nature Microbiology.

تعد مضادات الاكتئاب من أكثر الأدوية الموصوفة في العديد من الدول. ووفق منظمة الصحة العالمية؛ فإن ما يقدّر بنحو 300 مليون شخص في العالم يعانون من الوباء الصامت (الاكتئاب)، ويدفع حوالي 800 ألف شخص إلى الانتحار سنويًا، وهذا ما يُكسب الدراسة الجديدة أهمية قصوى.

درس فريق رايز جينومات أكثر من 500 نوع من البكتيريا المعوية، وحلل قدرتها على إنتاج المركبات العصبية neuroactive، وهي مجموعة من المواد الكيميائية التي تؤثر على وظائف الدماغ، وتمكّن الباحثون من تصميم أول كتالوج للنشاط العصبي لبكتيريا الأمعاء.

بعض أنواع البكتيريا لديها خصائص مضادة للالتهاب عبر تكسير الألياف وإنتاج مركب بيوتيرات butyrate المضاد للالتهابات، ولأن الالتهابات وثيقة الصلة بالاكتئاب؛ فإن قدرة البكتيريا على تثبيط الالتهاب تعني أنها تحارب الاكتئاب.

هذه البكتيريا لها ميزة أخرى؛ فهي تنتج النواقل العصبية وسلائف الدوبامين والسيروتونين، ما يحسِّن الصحة العقلية ويقلل من خطورة الاكتئاب، ومن أمثلتها بكتيريا المكورة البرازية coprococcus وبكتيريا dialister.

نشكر هذه البكتيريا التي غيّرت فكرتنا عن بكتيريا المعدة، بعدما صفعتنا الهيلوباكتر بيلوري والإي كولاي، ونشكر السيد رايز ونتائجه المهمة، وربما يغيِّر الرجل مسار "المعدة - القلب" المباشر، ويفتح صفحة جديدة في طريق "المعدة-العقل"؛ فعلى السيدات الانتباه لتحديثات الطريق، ووقاكم الله شر الاكتئاب وغيره.