الذين اقتربوا.. فرأوا

26 نوفمبر 2014
لا يمكن إعادة الممسك بحلم الحرية إلى هامش المشهد(Getty)
+ الخط -

لا يمكن انتزاع حادثة انتحار زينب المهدي من السياق العام لما يجري في مصر، وما يحدث لمغامرة "الربيع العربي"، بشكل عام.. يشير كل شيء، الآن، بعد مرور قرابة الأربع سنوات على اشتعال فتيل الثورة في تونس، إلى أن "الكبار" قد أفاقوا لما حدث، وقرروا أن يضعوا حداً للمغامرة غير المحسوبة، التي بدأت في لحظة مسروقة من سياق الزمن الاعتيادي، واشتعل وقود أحداثها في غفلة من الجميع.

الآن، وبعدما بدأ الكبار في الإمساك بخيوط اللعبة من جديد، وجد من صدَّقوا أنهم يمكنهم تغيير الواقع، الذي أجبر "البوعزيزي" على إشعال النار في نفسه، في موضع البوعزيزي نفسه.. ظهورهم للحائط، وقد تغيَّر المشهد، وانفلت عقد الأحلام.

أفرزت موجة الربيع العربي جيلاً من الشباب، أحدثوا تغييراً، ولو كان طفيفاً، في ميزان القوة في اللعبة السياسية في المنطقة العربية .. لم تعد المواجهة الاعتيادية بين الأنظمة المتكلسة، وبين جماعات الإسلام السياسي، فقط، تكفي لتلخيص المشهد، كما كان الأمر خلال ما مضى. الآن، وبعدما تلقى جيل الثورة هزيمته المُرَّة، وهمُ الشباب الذي تفتَّح وعيُّه بالعالم ومفرداته على الثورة، يعاني معظمهم من أعراض ما بعد الصدمة، وإدراك مرارة الهزيمة وثقلها.. المشهد الآن اختلف بشكل جذري عن الحلم الذي صدقوه، مشهد مغاير بتفاصيل جديدة تماماً، لا يتحمل ثقلها الحالمون.. الكبار يطالبون من طافوا الشوارع يهتفون ويغنون للحرية، بأن يقبلوا مفردات الواقع الثقيل، والاستسلام للظلم، للدكتاتورية، للتمييز، لكل تفاصيل المشهد الذي حلمت جموع الشباب هذه بتغييره خلال الأربع سنوات الماضية. ولكن، تطل الحقيقة الآن علينا بوضوح؛ لتخبرنا أن الذين اقتربوا؛ فرأوا، وأمسكوا حلم الحرية في متناول اليد، لا يمكن إعادتهم إلى هامش المشهد، كما كانوا، يصبحون قابلين للانضواء تحت لواء الاستبداد، والتكيُّف معه، كما عاش من سبقوهم.

في كتابها الثقيل، "المبتسرون"، كتبتْ أروى صالح، تصف تجربة جيلها وهزيمته، وهي أحد أهم الكوادر الشبابية، التي قادت الحراك الطلابي في سبعينيات القرن العشرين في مصر: "خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرد، هي أنه مهما كان مصير كل واحد من أبنائه، سواء سار فى سكة السلامة، طريق التوبة والإذعان لقوة الأمر الواقع، و حتى إعلان الكفر بكل قيم التمرد القديم، أو سار فى طريق الندامة، الانهيار، اعتزال الحياة، المرض النفسي، فإنه شاء أم أبى لا يعود أبداً نفس الشخص الذي قبل أن تبتليه غواية التمرد، لقد مسه الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دوماً ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفية، لا تكاد تحتمل لفرط جمالها، تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة، ككل لحظة مفعمة بالحياة".

كان آخر ما بعثت به زينب لأحد أصدقائها، قبل انتحارها بأيام: "تعبت، استهلكت، ومفيش فايدة.. مفيش قانون خالص هيجيب حق حد، بس إحنا بنعمل اللي علينا".

كتبت زينب هذه الكلمات، قبل أن تغلق حسابها على "فيسبوك"، وتترك جسدها يتدلى من حبل في سقف غرفتها، بعدما زهدت الحياة، بما فيها، ولم تعد قادرة على التكيُّف مع الظلم والانكسار، والذي تراه الأغلبية من حولها هو طبيعة الحياة. قبلها بسنوات، انتحرت أيضاً "أروى صالح"، كاتبة "المبتسرون".. قالت في كتابها: "نحن أبناء الزمن الذي فقد فيه حتى الحزن جلاله، صار مملًا هو الآخر، مثل البرد، مثل الصداع، والملل لا يصنع فناً، فقط أناسًا مملين".

سلامٌ على من لم تحتمل أرواحهم ملل الحزن، ومرارة الانكسار.

*مصر

المساهمون