في مسرحية الكاتب الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980)، غطى الذباب سماء المدينة بسبب الخيانة، أو قل الخيانات المتكررة، وطارد أهل البلد في كل مكان، وبات واضحاً للجميع أن الذباب سيغادر بلدهم عندما يتوبوا ويكفّروا عن ذنوبهم.
لكن ماذا فعل أهل البلد حتى تصيبهم لعنة الذباب؟ يروي الكاتب أن زوجة الملك العادل تآمرت عليه مع عشيقها، وأن أهل البلد لم يدعموه أو يدفعوا عنه المؤامرة، حتى أنه مات أمام أعينهم دون أن يحرك أي منهم ساكناً، ولاحقاً تنازلوا عن حريتهم ورفاهيتهم للملك الجديد الذي حكم عبر خيانة الملك الشرعي، حتى أنهم باتوا على حافة الهلاك بسبب سياساته الظالمة الفاشلة، وعندها أيضاً لم يتحرك أي منهم لتغيير الأوضاع المزرية، فكان الذباب عقابهم.
العجيب أن أهل البلد الخانعين لم يستفيدوا من لعنة الذباب التي أصابتهم، بل فضلوا التعايش مع اللعنة واعتادوا الحياة مع الذباب بدلاً من الاعتراف بالخطيئة ومحاولة تغيير واقعهم المأساوي.
هذا المعنى المفجع الذي كتبه سارتر في المسرحية التي نشرت عام 1943، ليس بعيداً بالمرة عن أحوال كثير من البلدان العربية، بل وبلدان كثيرة حول العالم، فكم من الحكام تم التآمرعليهم أمام أعين محكوميهم، بل أحياناً بمساعدة المحكومين، أو باستغلال صمتهم.
مسرحية أخرى سارت على الدرب نفسه، لكن الكاتب هذه المرة كان عربياً، وربما لهذا قوبلت مسرحيته "الذباب الأزرق" بالمنع والمطاردة، كما لقي كاتبها المبدع الراحل نجيب سرور (1932-1978)، مصيراً أكثر مأساوية شمل التشويه والاعتقال والتعذيب، وصولاً إلى الموت.
كتب سرور مسرحيته تفاعلاً مع أحداث "أيلول الأسود" عام 1970، وفيها قدر من السخرية السوداء مما آلت إليه القضية الفلسطينية لا يتوفر لغيرها من الأعمال الأدبية العربية، وربما كان ذلك سبب الحرص على منعها رغم أنها لم تذكر الشخوص والجهات والأحداث صراحة.
في "الذباب الأزرق" يدور أربعة فلسطينيين بجثمان رفيقهم في محاولة لمواراة الجثمان الثرى كأبسط حقوق إنسان فقد الحق في مواصلة الحياة، وسط إسقاطات كثيرة، صريحة أحياناً ومعتمدة على الرموز في الأغلب، على الوضع الإنساني للفلسطينيين منذ النكبة، ودلالات متكررة على التخاذل العربي.
وفي حين اعتمد سارتر على الذباب بشكل عام باعتباره لعنة مناسبة للصامتين على الخيانة، فإن نجيب سرور اختار "الذباب الأزرق" تحديداً بما له من رمزية مرتبطة بالموت، فهو يتغذى على الجثث المتعفنة، ويعرف بانتشاره في المقابر، وارتبط به المثل الشعبي "لن يعرف الذباب الأزرق لك مكاناً"، وكأن الجميع أموات.