05 يونيو 2017
الدين والسياسة في مصر
ساد اعتقادٌ عند قطاعاتٍ واسعة من الإسلاميين، ومن غيرهم أيضاً، أن الحركات الإسلامية ستهيمن على الحياة السياسية العربية، في حال حصول أية انتخاباتٍ تنافسية نزيهة، وهو اعتقاد يُبنى عند الإسلاميين على تصورٍ مفاده بأن روح المجتمعات العربية إسلامية، وهويتها كذلك، وأنها لن تختار غير خيارٍ إسلامي، وهذا التصور موجود بقوة في الدوائر السياسية والثقافية الغربية.
لم يكن هذا التصوّر دقيقاً تاريخياً، لكن هشاشته اتّضحت أكثر بعد الربيع العربي، إذ أكّدت الانتخابات التي جرت في مصر وتونس وليبيا، وحتى في العراق، أن المزاج الشعبي، وإنْ تأثر بميلٍ إلى الإسلاميين في لحظاتٍ معينة، إلا أن أولوياته مرتبطةٌ بالمعيشة والأمن، وليس بالهوية الدينية. الواقع أن صعود الإسلاميين نفسه، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، لا يمكن تبسيطه بالحديث عن عودة الناس إلى التديّن، مع إغفال عوامل أساسيةٍ ساهمت بشكل مباشر في هذا الصعود، من أهمها اندفاع الغرب، ومعه النظام الرسمي العربي منذ السبعينيات، لتصعيد الإسلاميين، في مواجهة المد الشيوعي السوفييتي، والعلمانيين القوميين واليساريين.
يشير سكوت هيبارد، في كتابه "السياسة الدينية والدول العلمانية"، إلى أهمية تلاعب النخب السياسية بالدين، في تفسير صعود حالة دينية يمينية في دول في العالم، منها مصر. في زمن جمال عبد الناصر، جرى العمل على تثبيت رؤية علمانية لقيادة الدولة، تتلخص في القومية العربية المطعمة بمبادئ الاشتراكية، ورعاية الدولة المباشِرَة مسيرة التنمية والتحديث، وقد اتخذ عبد الناصر من الهوية العربية عنواناً للدولة في مصر، في إطار السعي إلى الوحدة العربية، وتعريف مصر جزءاً من أمةٍ عربية، على النقيض من تبني مفهوم ديني للأمة، تمسك به الإخوان المسلمون.
لم يحارب عبد الناصر مظاهر التديّن في المجتمع المصري، وإنما دمج الدين في الخطاب العروبي، في إطار التأكيد على تصالح العروبة مع الإرث الإسلامي، وتناغم الاشتراكية مع الإسلام. عمل على استيعاب رجال الدين والمؤسسة الدينية داخل النظام، ودمج محاكم الشريعة، التي كانت تعمل باستقلال عن بقية المحاكم منذ القرن التاسع عشر، بمنظومة القضاء الوطني، ووضع المساجد تحت إشراف وزارة الأوقاف التي وضعت يدها أيضاً على أوقافٍ كانت مداخيلها تمول الأزهر، ما جعل المؤسسة الدينية تعتمد أكثر على الدولة للحصول على المال، قبل إنجاز الخطوة الأخيرة للإمساك بالمؤسسة الدينية، من خلال إعادة هيكلة الأزهر عام 1961.
سعى عبد الناصر، من كل هذه الإجراءات، إلى تحجيم دور المؤسسة الدينية، والحصول على تأييدها عملية التحديث وأفكار القومية العربية والاشتراكية، بدعم تفسيراتٍ إسلامية أكثر انفتاحاً داخلها، لمواجهة خصومه الإسلاميين في مصر والوطن العربي، والتواصل مع القطاعات التقليدية من السكان، من دون تحدّي مشاعرهم الدينية. ضمن هذه التوليفة، سادت في مصر حالةٌ حداثيةٌ علمانية، ترتكز إلى هويةٍ عربيةٍ لا تمييز فيها على أساس الانتماء الديني، ونشرها عبد الناصر في الوطن العربي، باستخدام تأثيره الكاريزمي على الجماهير العربية.
ظهر نقد علماني أكثر جذريةً لتجربة عبد الناصر، لكن التجربة العلمانية الناصرية، وإنْ شابها قصور، تراجعت بدفعٍ من الرئيس أنور السادات الذي بدأ، مع ما سماها "ثورة التصحيح" في مايو/ أيار 1971، رحلة القضاء على إرث عبد الناصر، بتصعيد العنصر الديني في الخطاب الرسمي، وفي الإعلام المملوك للدولة. أكد دستور عام 1971 في مادته الثانية أن الإسلام هو دين الدولة، وعقد "الرئيس المؤمن" مصالحة مع الإخوان المسلمين، ودعمهم لمواجهة الناصريين واليساريين"الملاحدة"، وخصوصاً في الجامعات، كما سمح بتدفق هائل للأموال من الخارج إلى المؤسسات الدينية المختلفة، وتوسيع دور المؤسسة الدينية الرسمية. كان لسياسة السادات في تمكين الإسلاميين عواقب، منها ظهور الاحتقان الطائفي، وتأزّم وضع أقباط مصر الذين شعروا بنهاية أي مفهومٍ للمواطنة المتساوية.
حصل الانقلاب في علاقة السادات بالإسلاميين، بعد انتفاضة الخبز عام 1977، رداً على سياسات الانفتاح الاقتصادي التي أفقرت الناس، ثم اتفاقية كامب ديفيد، وتحول من دَعَمَهُم
السادات من الطلبة الإسلاميين إلى خزّانٍ لجماعات العنف الجهادي التي اغتالته. في عهد حسني مبارك، غابت أية رؤية أيديولوجية، لكن قدمت التسويات التي أقامها النظام بيئة خصبة لتمدّد الحالة الدينية، وانحسار العلمانية.
حاول نظام مبارك مواجهة الجهاديين بترويج تفسير معتدل للإسلام، وارتكز في هذا إلى عملية تكيّف مع الإخوان المسلمين، سمحت لهم بدخول الانتخابات البرلمانية عامي 1984 و1987، والتقاطع مع دعم الدولة الجهاد الأفغاني، كما تركت لهم مساحة للتنظم وتوفير الخدمات الاجتماعية، لكن هذا لم يكن دائماً، إذ حاربت الحكومة لاحقاً وجودهم في النقابات، واعتقلت بعض أعضائهم، لكن لعبة التكيّف استمرت ضمن شدٍّ وجذب.
إضافة إلى ذلك، سمح نظام مبارك للسلفيين الدعويين غير المسيّسين بحرية التحرك (وهو ما أنتج طفرة حزب النور بعد ثورة يناير)، كما منح الأزهر صلاحياتٍ أوسع، وقد بات يغص بالمحافظين والعناصر الأكثر تشدّداً في مواجهة التيارات الحداثية، مما ساهم في مواجهةٍ شرسةٍ، قادها علماء من الأزهر، وقضاة يوافقونهم التوجه، ضد أعمالٍ فكريةٍ وأدبيةٍ وفنية، وأصحابها من العلمانيين، أو مروّجي تفسيرات إسلامية "جريئة"، مثل نصر حامد أبو زيد.
قضى نظام مبارك على التمرّد الجهادي في التسعينيات بتفعيل العنف الأمني المضاد، لكن خواءه الأيديولوجي، ومنحه علماء الدين والحركيين الإسلاميين مساحاتٍ واسعة، عزّز حضور الدين في الشأن العام. كانت الدولة في مصر مُسَاهِمَة، من خلال الأيديولوجيا والخيارات التي تتبناها، في صعود شعبية الإسلاميين وهبوطها.
لم يكن هذا التصوّر دقيقاً تاريخياً، لكن هشاشته اتّضحت أكثر بعد الربيع العربي، إذ أكّدت الانتخابات التي جرت في مصر وتونس وليبيا، وحتى في العراق، أن المزاج الشعبي، وإنْ تأثر بميلٍ إلى الإسلاميين في لحظاتٍ معينة، إلا أن أولوياته مرتبطةٌ بالمعيشة والأمن، وليس بالهوية الدينية. الواقع أن صعود الإسلاميين نفسه، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، لا يمكن تبسيطه بالحديث عن عودة الناس إلى التديّن، مع إغفال عوامل أساسيةٍ ساهمت بشكل مباشر في هذا الصعود، من أهمها اندفاع الغرب، ومعه النظام الرسمي العربي منذ السبعينيات، لتصعيد الإسلاميين، في مواجهة المد الشيوعي السوفييتي، والعلمانيين القوميين واليساريين.
يشير سكوت هيبارد، في كتابه "السياسة الدينية والدول العلمانية"، إلى أهمية تلاعب النخب السياسية بالدين، في تفسير صعود حالة دينية يمينية في دول في العالم، منها مصر. في زمن جمال عبد الناصر، جرى العمل على تثبيت رؤية علمانية لقيادة الدولة، تتلخص في القومية العربية المطعمة بمبادئ الاشتراكية، ورعاية الدولة المباشِرَة مسيرة التنمية والتحديث، وقد اتخذ عبد الناصر من الهوية العربية عنواناً للدولة في مصر، في إطار السعي إلى الوحدة العربية، وتعريف مصر جزءاً من أمةٍ عربية، على النقيض من تبني مفهوم ديني للأمة، تمسك به الإخوان المسلمون.
لم يحارب عبد الناصر مظاهر التديّن في المجتمع المصري، وإنما دمج الدين في الخطاب العروبي، في إطار التأكيد على تصالح العروبة مع الإرث الإسلامي، وتناغم الاشتراكية مع الإسلام. عمل على استيعاب رجال الدين والمؤسسة الدينية داخل النظام، ودمج محاكم الشريعة، التي كانت تعمل باستقلال عن بقية المحاكم منذ القرن التاسع عشر، بمنظومة القضاء الوطني، ووضع المساجد تحت إشراف وزارة الأوقاف التي وضعت يدها أيضاً على أوقافٍ كانت مداخيلها تمول الأزهر، ما جعل المؤسسة الدينية تعتمد أكثر على الدولة للحصول على المال، قبل إنجاز الخطوة الأخيرة للإمساك بالمؤسسة الدينية، من خلال إعادة هيكلة الأزهر عام 1961.
سعى عبد الناصر، من كل هذه الإجراءات، إلى تحجيم دور المؤسسة الدينية، والحصول على تأييدها عملية التحديث وأفكار القومية العربية والاشتراكية، بدعم تفسيراتٍ إسلامية أكثر انفتاحاً داخلها، لمواجهة خصومه الإسلاميين في مصر والوطن العربي، والتواصل مع القطاعات التقليدية من السكان، من دون تحدّي مشاعرهم الدينية. ضمن هذه التوليفة، سادت في مصر حالةٌ حداثيةٌ علمانية، ترتكز إلى هويةٍ عربيةٍ لا تمييز فيها على أساس الانتماء الديني، ونشرها عبد الناصر في الوطن العربي، باستخدام تأثيره الكاريزمي على الجماهير العربية.
ظهر نقد علماني أكثر جذريةً لتجربة عبد الناصر، لكن التجربة العلمانية الناصرية، وإنْ شابها قصور، تراجعت بدفعٍ من الرئيس أنور السادات الذي بدأ، مع ما سماها "ثورة التصحيح" في مايو/ أيار 1971، رحلة القضاء على إرث عبد الناصر، بتصعيد العنصر الديني في الخطاب الرسمي، وفي الإعلام المملوك للدولة. أكد دستور عام 1971 في مادته الثانية أن الإسلام هو دين الدولة، وعقد "الرئيس المؤمن" مصالحة مع الإخوان المسلمين، ودعمهم لمواجهة الناصريين واليساريين"الملاحدة"، وخصوصاً في الجامعات، كما سمح بتدفق هائل للأموال من الخارج إلى المؤسسات الدينية المختلفة، وتوسيع دور المؤسسة الدينية الرسمية. كان لسياسة السادات في تمكين الإسلاميين عواقب، منها ظهور الاحتقان الطائفي، وتأزّم وضع أقباط مصر الذين شعروا بنهاية أي مفهومٍ للمواطنة المتساوية.
حصل الانقلاب في علاقة السادات بالإسلاميين، بعد انتفاضة الخبز عام 1977، رداً على سياسات الانفتاح الاقتصادي التي أفقرت الناس، ثم اتفاقية كامب ديفيد، وتحول من دَعَمَهُم
حاول نظام مبارك مواجهة الجهاديين بترويج تفسير معتدل للإسلام، وارتكز في هذا إلى عملية تكيّف مع الإخوان المسلمين، سمحت لهم بدخول الانتخابات البرلمانية عامي 1984 و1987، والتقاطع مع دعم الدولة الجهاد الأفغاني، كما تركت لهم مساحة للتنظم وتوفير الخدمات الاجتماعية، لكن هذا لم يكن دائماً، إذ حاربت الحكومة لاحقاً وجودهم في النقابات، واعتقلت بعض أعضائهم، لكن لعبة التكيّف استمرت ضمن شدٍّ وجذب.
إضافة إلى ذلك، سمح نظام مبارك للسلفيين الدعويين غير المسيّسين بحرية التحرك (وهو ما أنتج طفرة حزب النور بعد ثورة يناير)، كما منح الأزهر صلاحياتٍ أوسع، وقد بات يغص بالمحافظين والعناصر الأكثر تشدّداً في مواجهة التيارات الحداثية، مما ساهم في مواجهةٍ شرسةٍ، قادها علماء من الأزهر، وقضاة يوافقونهم التوجه، ضد أعمالٍ فكريةٍ وأدبيةٍ وفنية، وأصحابها من العلمانيين، أو مروّجي تفسيرات إسلامية "جريئة"، مثل نصر حامد أبو زيد.
قضى نظام مبارك على التمرّد الجهادي في التسعينيات بتفعيل العنف الأمني المضاد، لكن خواءه الأيديولوجي، ومنحه علماء الدين والحركيين الإسلاميين مساحاتٍ واسعة، عزّز حضور الدين في الشأن العام. كانت الدولة في مصر مُسَاهِمَة، من خلال الأيديولوجيا والخيارات التي تتبناها، في صعود شعبية الإسلاميين وهبوطها.