مع حلول شهر رمضان، تتغير ملامح المجتمعات العربية فتصبح محافظة أخلاقياً وملتزمة دينياً، وذلك لمكانة هذا الشهر لدى المسلمين، وما يمثله من قيم ذات دلالات رمزية في التقرب إلى الله، وصلة الرحم والتآخي مع المحتاجين والفقراء. وعند هذا الشهر، تظهر تغييرات كبيرة عند الشباب، فبعضهم الذي كان لا يصلي يصبح مواظباً على فرائضه بل ومقيماً للنوافل، كما تطرأ عليه تحولات سلوكية فيقاطع المعاصي ويجتنب اللذات بالذكر وحضور الدروس الدينية.
تمثل هذه المتغيرات نقطة مركزية في فهم الدين والتدين في المنطقة العربية، خصوصاً عند الشباب، فهذه الفئة العمرية تمثل ما يزيد عن 65% من المواطنين العرب، كما أنها حاملة لهموم أماني المستقبل، الأمر الذي يستوجب دراسة وتحليل الظاهرة الدينية واللجوء للالتزام الديني بهذا الشكل الموسمي كما هو الأمر في رمضان.
على هذا النحو، لا بد من التوقف عند مفاهيم الدين والتدين وعلاقتها بالسلوكيات الاجتماعية عند الشباب العربي مع تسليط الضوء على تداعياتها على شكل الدولة في ظل صعود متواصل وترويج لمفاهيم العلمانية والمدنية.
إن التمييز بين الدين والتدين مرحلة بالغة الأهمية في تطور مفاهيم الحداثة والعلمانية، فالدين هو مجموعة من المعتقدات والطقوس التي تحدد علاقة الإنسان بالمقدس؛ حيث يمثل مجموع الممارسات والطقوس الخاصة بكل معتقد ويبرز الانتماء إلى عقيدة دينية. أما التدين فهو تطبيق تعاليم الدين بصفة فيها الرحمة والتفهم واللين واليسر، وهو تأثير الموقف الذاتي على الموقف الديني؛ ما يؤدي إلى موجة من الدين الشخصي أو الخاص.
في ذات السياق، يرتبط الدين بالمقدس باعتباره ملكة روحية وهو مكون رئيس من مكونات الدين الإنساني، لكن لا يمكن أن يُختزل الدين في تجربة الانفعال بالمقدس فقط، فبالرغم من الأبعاد الفردية المميزة للدين، فهذا الأخير هو ظاهرة جماعية واجتماعية، حيث يضيف إلى تجربة المقدس الأبعاد الإيمانية، المؤسساتية والتنظيمية.
فالدين لا يتم فقط بالانفعال بالمقدس بل بوجود الإيمان به وبوجوده الحي والعاقل في الغيب، وأن من الواجب عبادته، ومأسسة هذا الإيمان وأدائه لدوره في إنتاج الجماعة. أما التدين فهو نتاج الجانب الاجتماعي للدين، حيث تستأثر الغريزة الاجتماعية بالنصيب الأكبر وتدفع الناس إلى الاجتماع والمحافظة على الجماعة، من خلال توارث التقاليد وممارسة الطقوس والتشارك في السرديات وغيرها، وعن طريق تجاوز الغرائز بواسطة البنى الاجتماعية والفعل الإنساني الخلاق.
تاريخياً، تطرّق الفلاسفة لظاهرة الدين والتدين؛ حيث اعتبر كانت أن الأخلاق هي الفعل الإنساني الحر النابع عن اختيار العمل بموجب القانون الأخلاقي، أو ما يعرف بأخلاق الواجب، لكن كانت يؤكد أن العمل الأخلاقي بهذا المعنى لا يقود إلى السعادة بالضرورة، بل قد تتعارض معها، وعدم وجود علاقة بين السعادة والفعل الأخلاقي هو الذي يقود إلى الإيمان بالله وبخلود الروح، فيكون الله هو الضامن للقاء بين الفعل الأخلاقي والسعادة.
أما كارل ماركس فقد تعامل مع الدين على أساس كونه تعبيراً عن طموحات البشر ومخاوفهم. فالدين بالنسبة إليه هو تنهيدة المظلوم المقموع وقلب عالمٍ بلا قلب، كأن الدين إسقاط لعالم الإنسان المنفصم والمغترب على عالم آخر هو عالم المثل. وقد اشتهر ماركس بمقولته: الدين أفيون الشعوب، فماركس لم ير في الدين مخدراً للإنسانية بشكل عام، بل ادعى دوراً تخديرياً للدين في سياق علاقة الشعب بالدولة. ويعني بها المؤسسة الدينية باعتبارها مؤسسة اجتماعية قابلة للتدجين من طرف الدولة لتقوم بتطوير مصالح طبقية في المجتمع الإقطاعي، وينشر في عالم التمييز الطبقي نوعاً من الحميمية وتهيئ الإنسان لتقبل الظلم وتبريره.
على جانب آخر، اهتم ماكس فيبر بعلاقة الدين والتدين والاقتصاد من خلال الأنماط الإنتاجية، فقد استنتج فيبر عندما درس البلدان التي انتشرت فيها الرأسمالية كيف ساهم نمط معين من البروتساتنيتة الكالفنية في تشجيع نشوء الرأسمالية. فهذا المذهب المتحدر من الرأسمالية يقوم على أخلاقيات التقشف والعمل والشعور بالواجب باعتبارها تقوم مقام العبادات، في نوع من التقشف الديني الذي يحول الزهد في الدنيا إلى زهد داخلي إيماني، وإلى قوة إنتاجية مادية. وهو ما يفسر قوة النزوع نحو الرأسمالية التي تقع في صلب الحداثة.
في المنطقة العربية، كشفت العديد من الدراسات الأجنبية أن الشباب العربي يرتبط بأشكال معينة من التدين، فبين من يحاول إقامة فرائضه منتهجاً منهج الوسطية والاعتدال في الدين، وبين من يرى في التدين قوة إلى الانتماء إلى جماعة ما تعمل على تأطيره ومؤازرته في تجاوز أزماته رسم نمط معين لحياته، وفئة أخرى ترى في التدين ستارة وتسويقاً لصورة حسنة بالمجتمع تغطي أنشطة أخرى تتم في الخفاء خوفا من عتاب المجتمع لوم المقربين وربما لفظهم وطردهم لتلك الفئة الشابة.
ومما يلاحظ في هذا الشأن، هو الإقبال الكبير لجيل الشباب العربي على العلمانية كنمط اجتماعي يرون فيه فصل السياسة عن الدين، خاصة ما معرفته المنطقة العربية من سطوة السياسة على كل المناحي وما تسبب فيه السياسيون من هزائم وانكسارات وتقهقر اقتصادي واجتماعي لعقود طويلة.
كما يعتبر العديد من الشباب أن هذا الفصل قد ساهم في نهضة وتنمية العديد من الأمم، وفي ظل خلافات عميقة حول مفهوم العلمانية نفسه وأنماطها المختلفة فالعلمانية الفرنسية المتصلبة تختلف عن العلمانية الأميركية التي توصف بالمؤمنة من خلال دعم الدولة للأنشطة الدينية والتشجيع على الإعلام الديني وعدم منع مظاهر التدين بالأماكن العامة، لا بد من الإشارة أن السياق العربي شهد بعض الاختلافات في تطور مفهوم العلمانية، فقد تحولت سيطرة الدين على السياسية إلى سيطرة معكوسة حيث يتحكم الساسة في المؤسسات الدينية ويوجهنها لتحقيق غايتهم بل في العديد من الدول تحولت القداسة من الدين إلى مؤسسات أخرى كالجيش الأمن، ناهيك أن المجتمعات العربية مازالت تربط بين العلمانية الإلحاد أحيانا وبالموروث الاستعماري أحيانا أخرى يجعل تقبلها صعباً.
على هذا النحو، تعتبر الدولة المدنية صيغة متوازنة تتميز عن الدولة الدينية الثيوقراطية، فالأولى مهيكلة وموزعة بشكل يحفظ من استحواذ السلطة لدى فرد أو مجموعة بعينها، كما تنكب الدولة المدنية على إدارة الشأن العام دون الاكتراث إلى المجال الخاص، لا سيما القضايا الدينية، فالفرد نواة المجتمع يتمتع بكافة حقوقه ويلتزم بواجباته في المواطنة.
وعلى النقيض من ذلك، فالدولة الدينية لا تفرق بين المجال العام والخاص وتدخلاتها في المسائل الخاصة واجب ديني، فنجد أن ولي الأمر المفوض من الذات الإلهية يحتكر كل السلطات، يوظف المقدس ويحتمي بصورة المعصومية كحارس على الممارسة الدينية ويطالبهم بالمساندة في المنشط والمكره.
(المغرب)