18 ابريل 2019
الديمقراطية وحمار أمّ عَمْرو
ذهب الحمار بأمّ عَمْرٍو
فلا عادت ولا عاد الحمار
لقد رويت هذه القصة بصيغ مختلفة، ولكن الصيغة التي عرفتها منذ قديم الزمن كالتالي: فقد مرّ أحدهم برجل يجلس بجانب حائط ويبكي وينشد:
ذهب الحمار بأم عَمْرٍو
فلا عادت ولا عاد الحمارُ
فسأله عن شأنه، فقال الرجل: كنت جالساً هنا منذ ثلاثين عاماً حين مرّ أحدهم وهو ينشد هذا البيت، فأنا منذ ذاك الوقت وأنا أبكي أم عَمْرٍو هذه ولا أعلم من شأنها شيئاً!
هذا هو حال الكثيرون اليوم في العالم العربي الذين يتحدثون عن الديمقراطية ويدعون إلى الديمقراطية في خطاباتهم ويتباكون عليها، وحالهم في ذلك كحال صاحب أم عَمْرٍو تلك، لا يعرف ماذا يبكي.
فالديمقراطية هي عملية تربوية متكاملة تفترض أن ينشأ المواطن الصالح على حرية الاختيار في التصويت لممثليه في السلطات كلها، من دون ضغوط وابتزازات، وهذا وجه من وجوه الديمقراطية.
أما الوجه الأهم للديمقراطية فهو تمكين المواطن من ممارسة حقه بتهيئة البيئة الصالحة لذلك بترشيد استعمال القمع فلا يستخدم إلا لضرورات تمكين سلطة الأمر الواقع من إنفاذ القوانين المرعية الإجراء، وتقوية الضابطة القانونية.
وكذلك تتمثل في إمداد المواطن بالمعلومات الكافية التي تخاطب وعيه ليتمكن من اتخاذ قرار صحيح مبني على معلومات صحيحة، فقد يكون قراري صحيحاً بناءً على ما أرى، فكيف أجزم بأن ما أراه صحيحاً حين يعمد أحدهم إلى تزييف الوقائع لتضليل الرأي العام وإيهامه بمسؤولية طرف ما عن حدث ما..
فحين تقوم سلطة ما بتدبير مفخخة لحمل المواطنين على التصويت لها، فهي تقوم بتخويف المواطن من خطر ليس قائما، ولا يراه إلا من هو في موقع السلطة على نفوذه، فيعمد إلى إزاحة خصومه بوسائل غير شريفة.
وهكذا يختل ميزان العدل لدى المواطن الذي يرى صورة مختلفة عما هي في الواقع.. كذلك يقع على عاتق السلطة أن تقدم للمواطن دراسات جدوى بفوائد وأضرار كل فكرة يجري الجدال حولها، ففي الدول الأوروبية مثلاً درجت العادة أن تقوم الدولة (كانت السويد مثلاً يحتذى به في ذلك) بإمداد المواطنين بكتاتيب تشرح فوائد وسيئات الاتحاد الأوروبي، والخيار النهائي للمواطن في التصويت للمؤيدين أو المعارضين.
وفي صور أخرى يجب أن تعمم التجربة الديمقراطية فتشمل كل مناحي الحياة ولا يشمل النداء عليها فقط جانباً واحد وصورة واحدة، ثم يقوم المنادي بها بإقفال الباب وراءه ومنع الآخرين من صعود الدرج وإزاحته.
كيف ينادي المنادون بالديمقراطية في المجتمع بينما يمارسون القمع والديكتاتورية وحكم الشخص الواحد في أحزابهم، ولو نظرت إلى أغلب الأحزاب العربية لوجدت أن رئيس الحزب هو الحاكم الأوحد ويورث الأمر لأولاده، ويدّعي زورا خصومته لممارسات يقوم هو بها، ويستغل منصبه لتعزيز نفوذه وإضعاف خصومه مما يجعل منافسته أمراً شبه مستحيل، وعملية إعادة انتخابه شبه تمثيلية، وهذا ما يسمى بإفراغ الديمقراطية من مضمونها وجعلها ممارسة كاذبة وشكلية.
في الدول المتقدمة مثلاً يجب التصريح عن كل الأموال التي ستستخدم في الحملات الانتخابية، ويجب تقديم فرص متساوية لجميع المرشحين لعرض أنفسهم بالشكل الكافي على الجمهور، سواء من خلال وسائل الإعلام أو من خلال الحملات الانتخابية.
أما في بعض البلدان المنادية حالياً بالديمقراطية فلا يعدو الأمر كونه فولكلوراً وبهرجة وموضة دارجة، كما كانت الاشتراكية موضة الستينيات والسبعينيات، ولا يدرك المنادون بها أنهم ينشدون حمار أم عَمْرو وهم لا يعلمون.
إن من أهم خصائص الديمقراطية وشروطها هو تثقيف المواطن بصورة يكون قادراً فيها على اتخاذ قراره بمعزل عن كل التأثيرات الخارجية، وإن حيادية السلطة مهمة جداً في إنجاح مهمة كهذه.
فكيف ستستقيم عملية ديمقراطية حين يسمح للوزراء وهم من يستطيعون تقديم الخدمات؛ بخوض الانتخابات ضد مرشحين فقراء لا يملكون أموالاً كافية لتمويل مصاريف حملاتهم، مما يضع المرشح الفقير تحت رحمة الممول الانتخابي الذي يضع شروطه ويفسد السلطة التشريعية، وهذه ممارسات تحدث في الدول المتقدمة حتى ( الولايات المتحدة ونظام اللوبيات وتمويل الحملات الانتخابية مثال واضح عن ذلك).
ثم هل من العدل أن يستوي صوت المثقف بصوت من يساق كالغنم إلى زرائب التصويت، ففي لبنان على سبيل المثال يقوم عدد محدود من الأشخاص بالتصويت، وهم من يسمون بالمفاتيح الانتخابية، إذ يتخذ هؤلاء قرارهم بالوقوف مع مرشح ضد الآخر ويلزمون محاسيبهم بالتصويت كبلوكات انتخابية جاهزة عند الطلب لمن يدفع أكثر أو لمن يناسب خطهم خطه، وقد يتغير الولاء وتنتقل البندقية من كتف إلى كتف بكل سهولة حسب الممول والعرض، وهكذا تستطيع بسهولة أن ترى أن واحداً صوته بصوت، وآخر صوته بخمسة آلاف، ويتم الدفع حسب قوة الصوت.
وحين يصل الممثل إلى البرلمان سيقول لمراجعيه كما قال النائب السابق جوزيف اسكاف لأحد المراجعين لغياب الخدمات والطرقات: أنت قبضت ثمن صوتك مني ولم تصوت لي لأعبد الطرقات أو ابني لك المدارس، يا زرزور احضر لي دفتر مصاريف الانتخابات، (زرزور كان مدير حملته) ثم أظهر للرجل أن ثمن صوته قد دفع لمفتاحه الانتخابي في بلدته، وبالتالي فليذهب ويطالب مفتاحه الانتخابي بالخدمات ولا فضل له في شيء.
فهل هذه هي الديمقراطية التي ننشدها، أم هي أمّ عَمْرٍو وحمارها!
فلا عادت ولا عاد الحمار
لقد رويت هذه القصة بصيغ مختلفة، ولكن الصيغة التي عرفتها منذ قديم الزمن كالتالي: فقد مرّ أحدهم برجل يجلس بجانب حائط ويبكي وينشد:
ذهب الحمار بأم عَمْرٍو
فلا عادت ولا عاد الحمارُ
فسأله عن شأنه، فقال الرجل: كنت جالساً هنا منذ ثلاثين عاماً حين مرّ أحدهم وهو ينشد هذا البيت، فأنا منذ ذاك الوقت وأنا أبكي أم عَمْرٍو هذه ولا أعلم من شأنها شيئاً!
هذا هو حال الكثيرون اليوم في العالم العربي الذين يتحدثون عن الديمقراطية ويدعون إلى الديمقراطية في خطاباتهم ويتباكون عليها، وحالهم في ذلك كحال صاحب أم عَمْرٍو تلك، لا يعرف ماذا يبكي.
فالديمقراطية هي عملية تربوية متكاملة تفترض أن ينشأ المواطن الصالح على حرية الاختيار في التصويت لممثليه في السلطات كلها، من دون ضغوط وابتزازات، وهذا وجه من وجوه الديمقراطية.
أما الوجه الأهم للديمقراطية فهو تمكين المواطن من ممارسة حقه بتهيئة البيئة الصالحة لذلك بترشيد استعمال القمع فلا يستخدم إلا لضرورات تمكين سلطة الأمر الواقع من إنفاذ القوانين المرعية الإجراء، وتقوية الضابطة القانونية.
وكذلك تتمثل في إمداد المواطن بالمعلومات الكافية التي تخاطب وعيه ليتمكن من اتخاذ قرار صحيح مبني على معلومات صحيحة، فقد يكون قراري صحيحاً بناءً على ما أرى، فكيف أجزم بأن ما أراه صحيحاً حين يعمد أحدهم إلى تزييف الوقائع لتضليل الرأي العام وإيهامه بمسؤولية طرف ما عن حدث ما..
فحين تقوم سلطة ما بتدبير مفخخة لحمل المواطنين على التصويت لها، فهي تقوم بتخويف المواطن من خطر ليس قائما، ولا يراه إلا من هو في موقع السلطة على نفوذه، فيعمد إلى إزاحة خصومه بوسائل غير شريفة.
وهكذا يختل ميزان العدل لدى المواطن الذي يرى صورة مختلفة عما هي في الواقع.. كذلك يقع على عاتق السلطة أن تقدم للمواطن دراسات جدوى بفوائد وأضرار كل فكرة يجري الجدال حولها، ففي الدول الأوروبية مثلاً درجت العادة أن تقوم الدولة (كانت السويد مثلاً يحتذى به في ذلك) بإمداد المواطنين بكتاتيب تشرح فوائد وسيئات الاتحاد الأوروبي، والخيار النهائي للمواطن في التصويت للمؤيدين أو المعارضين.
وفي صور أخرى يجب أن تعمم التجربة الديمقراطية فتشمل كل مناحي الحياة ولا يشمل النداء عليها فقط جانباً واحد وصورة واحدة، ثم يقوم المنادي بها بإقفال الباب وراءه ومنع الآخرين من صعود الدرج وإزاحته.
كيف ينادي المنادون بالديمقراطية في المجتمع بينما يمارسون القمع والديكتاتورية وحكم الشخص الواحد في أحزابهم، ولو نظرت إلى أغلب الأحزاب العربية لوجدت أن رئيس الحزب هو الحاكم الأوحد ويورث الأمر لأولاده، ويدّعي زورا خصومته لممارسات يقوم هو بها، ويستغل منصبه لتعزيز نفوذه وإضعاف خصومه مما يجعل منافسته أمراً شبه مستحيل، وعملية إعادة انتخابه شبه تمثيلية، وهذا ما يسمى بإفراغ الديمقراطية من مضمونها وجعلها ممارسة كاذبة وشكلية.
في الدول المتقدمة مثلاً يجب التصريح عن كل الأموال التي ستستخدم في الحملات الانتخابية، ويجب تقديم فرص متساوية لجميع المرشحين لعرض أنفسهم بالشكل الكافي على الجمهور، سواء من خلال وسائل الإعلام أو من خلال الحملات الانتخابية.
أما في بعض البلدان المنادية حالياً بالديمقراطية فلا يعدو الأمر كونه فولكلوراً وبهرجة وموضة دارجة، كما كانت الاشتراكية موضة الستينيات والسبعينيات، ولا يدرك المنادون بها أنهم ينشدون حمار أم عَمْرو وهم لا يعلمون.
إن من أهم خصائص الديمقراطية وشروطها هو تثقيف المواطن بصورة يكون قادراً فيها على اتخاذ قراره بمعزل عن كل التأثيرات الخارجية، وإن حيادية السلطة مهمة جداً في إنجاح مهمة كهذه.
فكيف ستستقيم عملية ديمقراطية حين يسمح للوزراء وهم من يستطيعون تقديم الخدمات؛ بخوض الانتخابات ضد مرشحين فقراء لا يملكون أموالاً كافية لتمويل مصاريف حملاتهم، مما يضع المرشح الفقير تحت رحمة الممول الانتخابي الذي يضع شروطه ويفسد السلطة التشريعية، وهذه ممارسات تحدث في الدول المتقدمة حتى ( الولايات المتحدة ونظام اللوبيات وتمويل الحملات الانتخابية مثال واضح عن ذلك).
ثم هل من العدل أن يستوي صوت المثقف بصوت من يساق كالغنم إلى زرائب التصويت، ففي لبنان على سبيل المثال يقوم عدد محدود من الأشخاص بالتصويت، وهم من يسمون بالمفاتيح الانتخابية، إذ يتخذ هؤلاء قرارهم بالوقوف مع مرشح ضد الآخر ويلزمون محاسيبهم بالتصويت كبلوكات انتخابية جاهزة عند الطلب لمن يدفع أكثر أو لمن يناسب خطهم خطه، وقد يتغير الولاء وتنتقل البندقية من كتف إلى كتف بكل سهولة حسب الممول والعرض، وهكذا تستطيع بسهولة أن ترى أن واحداً صوته بصوت، وآخر صوته بخمسة آلاف، ويتم الدفع حسب قوة الصوت.
وحين يصل الممثل إلى البرلمان سيقول لمراجعيه كما قال النائب السابق جوزيف اسكاف لأحد المراجعين لغياب الخدمات والطرقات: أنت قبضت ثمن صوتك مني ولم تصوت لي لأعبد الطرقات أو ابني لك المدارس، يا زرزور احضر لي دفتر مصاريف الانتخابات، (زرزور كان مدير حملته) ثم أظهر للرجل أن ثمن صوته قد دفع لمفتاحه الانتخابي في بلدته، وبالتالي فليذهب ويطالب مفتاحه الانتخابي بالخدمات ولا فضل له في شيء.
فهل هذه هي الديمقراطية التي ننشدها، أم هي أمّ عَمْرٍو وحمارها!