31 أكتوبر 2024
الديمقراطية في مواجهة الفساد والاستبداد
مع اندلاع موجة الاحتجاجات والرجّات الشعبية، في أكثر من بلد عربي، منذ ديسمبر/كانون الأول 2010، لوحظ أن البؤرة المركزية والنواة الصلبة لمختلف المطالب والشعارات تمحورت حول محاربة الفساد وإسقاط الاستبداد، ولم يرفع هذا الشعار وغيره في المسيرات من أجل الاستهلاك الإعلامي، ولم يكن جزءاً من موضة سوسيو-سياسية، فرضتها مختلف الديناميات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها عدة مجتمعات عربية، كما أن لحظة انبثاقه لم تنم عن وجود نزعات وميول انتقامية، بل شكل صرخة جماعية واعية ومدوية، صدرت عن شرائح اجتماعية واسعة، أرادت، من خلال هذه الصرخة، أن تنبه وتشير إلى أن هذه الأورام (الفساد والاستبداد والإقصاء) التي انتشرت على نطاق شاسع، وتغلغلت في مفاصل الدولة، وتجذرت في المؤسسات، إلى أن تحولت على مدى عقود إلى ثقافة وممارسات دمرت، وتدمر، نظام القيم إلايجابية المرسخة للمواطنة والحقوق والواجبات، وخلقت استيهامات وقناعات شاذة داخل المجتمع، وشجعت على الفردانية والانتهازية والمحسوبية والقبول بالإذلال، ونسفت كل المعايير الضامنة للتدبير الرشيد والجيد والعقلاني للمؤسسات، وهذا ما أفسح المجال أمام جحافل أهل سوء التدبير والمحسوبية وشبكات المصالح وعلاقات القرب من الحكم ومراكز صناعة القرار، والنفاق الاجتماعي والكذب السياسي والتزوير وشراء الذمم، وصناعة أساطير وهمية في أكثر من قطاع، وتحويل الرشوة إلى نظام اجتماعي مقبول، لا يثير حرجا أخلاقياً، والجري وراء المال، مهما كانت لا أخلاقية وعدم شرعية المسالك المؤدية إليه، أي أن السلوكات الفاسدة خربت المجتمع والدولة، ونخر سوسها النفوس والعقول، ونهش كل شيء إيجابي وجميل وإنساني.
من المؤلم جداً أن يتحول الفاسد إلى نموذج اجتماعي وسياسي واقتصادي وإعلامي، ومن المفارقات المستفزة للعقل الجماعي والأخلاقي، أن يتمتع الفاسد بالشروط التي تحصنه وتحميه، وتضعه في مكان آمن لا يمتد إليه قانون ولا محاسبة ولا مساءلة، وهذا ما جعل مسؤولين عديدين، يتحولون في ظل تجذر ثقافة الفساد والاستبداد السياسي والاقتصادي والإعلامي، إلى ديناصورات مالية وعقارية وإدارية، تتحكم في دواليب الاقتصاد والسياسة والإعلام، ودفعها هذا الوضع إلى تحديد نوعية النخب التي يحتاج إليها هذا النظام أو ذاك، لبناء النموذج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يضمن إعادة إنتاج البنيات والعلاقات نفسها بين الحكام والمحكومين، وراحت مجموعة من الأنظمة، تبعا لذلك، تفصل وتخيط وتهندس وترسم الخرائط، وتقترح وتعين من تعتبرهم أوفياء في المراكز الحساسة للدولة، وتضع لهم أجندات متشابهة ومشتركة، هدفها المركزي رعاية الفساد وحماية المفسدين.
من المؤكد أن الفساد هو شقيق الاستبداد، وهما من سلالة واحدة، فحيثما يوجد الفساد يستوطن الاستبداد ويوطد دعائمه، وهما من ألد أعداء الديمقراطية، فنهب المال العام وسرقة ثروات البلاد أمام أنظار الجميع، وضداً على كل القوانين، وإغداق الامتيازات على بعض المصنفين ضمن الدرجة الأولى من "المواطنة"، هو قرار سياسي، لترسيخ دولة الريع ومجتمع الدولة.
من الطبيعي أن يشعر المفسد المحمي بسلطة، والمحصن ضد القانون، والمتحرر من الملاحقة والمحاسبة، بالغرور والعجرفة والسلطة المطلقة، وبجنون العظمة، وبالاستثناء في كل شيء، في طريقة التفكير والتدبير والكلام واللباس والأكل والشرب والمشي والنوم إلخ. وتأسيسا على ذلك، فإنه ينظر إلى عموم الشعب، على أنهم كلفوا، منذ الأزل، بخدمته وبالولاء له، وأن تحركهم وسكونهم لا يمكن أن يتم إلا بأمر منه.
لكن عين العقل ومنطق التطور وقواعد الاشتغال السليم للدولة واستقرار المجتمع يتطلب تفكيك جيوب الفساد ومشاتله، المنتشرة في أكثر من قطاع ومؤسسة، كما تطرح الضرورة الملحة لمساءلة كل المفسدين وملاحقتهم، لأن عكس ذلك يعني تشجيع الدولة والحكومة للفساد وحماية المفسدين، كما أن عدم اتخاذ إجراءات بناء الثقة بين الدولة والشعب لن يسهم سوى في تغذية مشاعر الغضب، وسيقوي من موجات الانتقام، لأنه، ببساطة شديدة، تتساءل قوى حية وديمقراطية ووطنية، تنتمي إلى الطيفين، السياسي والمدني: بأي حق يصبح بعض المسؤولين وبعض الأشخاص خارج القانون، و يتحكمون في كل شيء؟ لماذا تمنح لهم الامتيازات من دون غيرهم؟ ألا يتحملون مسؤولية في تردي الوضع العام؟ ألم يخربوا الاقتصاد الوطني منذ عقود؟ ألم ينسفوا التوازن الاجتماعي؟ ألم يصيبوا مجموعة من المؤسسات بالإفلاس؟ وبعلاقة مع ذلك، ألم يهيئوا التربة الخصبة لزراعة السلوكيات المتطرفة والعدمية، ونشر الفتنة والكراهية والحقد داخل مجتمعات عربية وإسلامية عديدة؟
يتمثل الرهان الديمقراطي والوطني الحيوي راهناً، وبصرف النظر عن مسارات الديناميات الاحتجاجية والإصلاحات الجزئية ومآلاتها هنا وهناك، بالدرجة الأولى، في استئصال الفساد، فلا قيمة لأي إصلاحات دستورية وسياسية، إذا لم تكن مصحوبة قرارات جريئة لتقويم الاعوجاجات التي طالت أساليب التدبير واحتواء الاختلالات التي مست النموذجين، الاقتصادي والاجتماعي، ووضع حد للانحطاط السياسي، وفشل الاختيارات التربوية والثقافية والإعلامية.
ومهما بلغت التنافسات السياسية والصراعات الفكرية والإيديولوجية من حدة وضراوة بين مختلف الفاعلين والفرقاء في المنطقة العربية، فهناك قواعد ومقتضيات يجب الاحتكام إليها، لتجنب الانزلاقات والحيلولة دون الوقوع في خطأ قاتل، قد يعيد دول المنطقة خطوات إلى الوراء، ومن هذه المقتضيات خدمة الوطن والدفاع عن المصلحة العامة. الالتزام بتفعيل هذا البند وحده، في سلوك وممارسة الفاعلين والمسؤولين على اختلاف مواقعهم، قادر على وقف عدد من المظاهر المسيئة لأي تجربة ديمقراطية صاعدة.
وفي السياق نفسه، تقتضي الممارسة السياسية الشفافة والديمقراطية والعقلانية، أن تكشف الأحزاب على اختلاف مشاربها ومرجعياتها عن الأرقام الحقيقية لمنخرطيها الذين من المفترض أنهم يشكلون الشرط الأول لوجودها في الحقل السياسي. لكن، في كثير من بلداننا، يظهر أن هناك حالة استثناء غريبة، فلكل الأحزاب منخرطوها وقواعدها، حتى وإن لم يمض على ولادتها سوى أيام قليلة، ولا قيمة هنا لعدد الأعوام والعقود والخبرة السياسية والتراكمات الميدانية والثقافية والاختيارات الإيديولوجية. الأحزاب، كما هو معروف في الأدبيات السياسية، هي تجسيد للجغرافيا الاجتماعية. وهي، في الوقت نفسه، فضاءات حرة لنقاش مسؤول حول توجهات معينة تشمل كل المجالات، وهي أي الأحزاب، ضرورية، بغض النظر عن طبيعة ممارستها وخطابها، لأنه لا يمكن للديمقراطية أن تشتغل جيداً بدونها، بل هي العمود الفقري للديمقراطية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن أي حزب يحترم أبسط المبادئ الديمقراطية والأخلاق السياسية، يتعين عليه أن يكون منسجما مع الواقع الاجتماعي والسياسي، حتى لا يتحول إلى عائق في وجه التطور الديمقراطي، وحتى لا يصير مجرد ديكور باهت في المسرح السياسي. وهذا ما يحتم اعتماد صيغ بديلة في العمل السياسي، كالاندماج والتكتل في إطار واحد، أو وحدوي، يِؤمن بتعدد الرأي واختلاف التيارات، عوض المراهنة على الأوهام واليوتوبيات التي ترفضها الواقعية السياسية.