04 نوفمبر 2024
الديغولية خيار أوروبا لمواجهة "أميركا أولاَ"
بقيت الدول الأوروبية، بعد الحرب العالمية الثانية، تتجنّب الدفع باتجاه بناء أوروبا قوية، ذات قرار مستقل عن الولايات المتحدة، وخططها الجيوسياسية وسياساتها التي انتهجتها بعد خروجها منتصرةً من تلك الحرب. وبقيت فرنسا الديغولية، حتى عقد، تتَّبع، وحيدةً، سياساتٍ مستقلّةً عن السياسات الأميركية، وعن سياسة الالتحاق بواشنطن التي فضَّلَتها ألمانيا وبريطانيا، معتبرتيْن أميركا حليفاً وشريكاً، إلا أن رؤية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المعروفة بـ "أميركا أولاً"، ونهجه الذي أخذ، أخيراً، يكرِّس هذه الرؤية واقعاً، قد تدفع باتجاه مفهوم "أوروبا ديغولية"، قوية ومتحرّرة من سلطة واشنطن، وتقطع مع مفهوم منطقة التبادل التجاري الحر مع أميركا، القائمة، والتي فرضتها ألمانيا وبريطانيا، وشرع ترامب بتقويضها.
بعد صدمة أوروبا التي تلقَّتها على خلفية مشروع البريكست البريطاني، ثم امتصاصها تلك الصدمة التي كانت كفيلةً بتقويض الاتحاد الأوروبي، بفضل التنسيق الألماني والفرنسي وعزم الدولتين على إجراء إصلاحاتٍ طال انتظارها من أجل حفظه، وجَّه ترامب لها صدمةً جديدةً، عشية قمة كيبيك أخيرا. وتبدو أوروبا المعنية الأساس في قرارات ترامب الحمائية التي عزّزها بفرضه رسوماً جمركية مرتفعة على واردات بلاده من الألمنيوم والحديد، وقبلها في انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران. ثم جاءت قنبلته التي فجرها في القمة، حين طلب من المشاركين فيها إعادة روسيا إلى مجموعة الدول الصناعية الكبرى، على الرغم من العقوبات الاقتصادية الغربية عليها، والشقاق الكبير بينها وبين الأوروبيين على خلفية قضية تسميم الجاسوس الروسي المزدوج، سيرغي سكريبال، وابنته.
تنبع سياسة ترامب هذه، تجاه أوروبا، من رؤيته التي أعلنها في حملته للانتخابات الرئاسية، والتي تبنّى خلالها مفهوم "أميركا أولاً"، وما يتطلبه تحقيق هذا الشعار من إهمال مصالح شركاء بلاده الاقتصاديين، حيث جاءت مواقفه خلال قمة كيبيك التي عُقِدت في 9 يونيو/ حزيران الماضي، لتجعلهم يلمسون جدية توجهاته. إزاء هذه السياسة، لا تملك أوروبا سوى تبني سياساتٍ بديلةٍ عن التي تبنتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ما يجعلها تقترب من الرؤية التي طالما رفضتها، والتي أرادها الرئيس الفرنسي الراحل، الجنرال شارل ديغول، لأوروبا مستقلة عن الولايات المتحدة، تنتهج سياساتٍ أمنيَّةً تستجيب لمتطلباتها الذاتية، لا لمتطلبات الاستراتيجية الأميركية التي جعلت حلفاءها الأوروبيين يذعنون لها، وساقَتْهم بموجبها إلى حرب باردة مع الاتحاد السوفييتي، شريكهم في القضاء على النازية والفاشية في القارة الأوروبية. تلك الحرب التي شنتها أميركا بموجب سياسة الاحتواء التي تبنّتها لتوقف المد الشيوعي في العالم، جعلت أوروبا تعيش حالةً من التوتر استمرت عقوداً، واستنزفت قدراتها.
ولكن، هل تمتلك أوروبا خيارات للاستقلال عن الولايات المتحدة، وهي المُكَبَّلة بحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي رهَنَ قرارها بيد واشنطن، وناضلت حليفتها لندن لجعلها منطقة تبادل اقتصادي حر، تفتقد لأي دور سياسي فعال، صبغ سياستها منذ سبعينيات القرن الماضي؟ إن لم تمتلك تلك الخيارات، فإن سياسات ترامب ستدفعها إلى ابتداعها. وكما حصل حين أُعلِنَت نتائج البريكست في بريطانيا، إذ خرجت دعوات إلى تشديد وحدة الدول الأوروبية، تخرج الآن دعوات بضرورة إنصات ألمانيا لمطالب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بإصلاح الاتحاد، وإيلاء مشكلات دول جنوب أوروبا مزيداً من الاهتمام، ودعم التنمية فيها. كذلك دعواته إلى ضرورة تخلي ألمانيا عن هوسها بفوائض الموازنة والتجارة، لأن ذلك يكون دائماً على حساب مصالح الآخرين.
من جهة أخرى، بقي أمام الشركات الأوروبية بضعة أشهر للخروج من إيران، استجابةً للتهديد الذي أطلقه ترامب، حين دعاها إلى الخروج من هذا البلد، وإلا واجهت عقوباتٍ أميركية. ويأتي هذا التهديد في إطار العقوبات التي فرضتها واشنطن على إيران، والتي جاءت بعد إعلان ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الموقع مع إيران، سنة 2015. وتعد هذه الدعوة ازدواجيةً في المعايير ظهرت لدى الرئيس الأميركي، وهي تُوقع الأوروبيين في حيرةٍ من أمرهم. فهي تأتي قبل أيام من دعوته، في أثناء قمة كيبيك، الدول المشاركة في القمة، إلى إعادة روسيا إلى مجموعة الدول الصناعية الكبرى، التي أخرجت منها بعد ضمها للقرم، وفرض عقوبات غربية عليها إثر ذلك. وقد تدفع هذه الدعوة الدول الأوروبية إلى البحث عن سياسات ماليةٍ بديلة، أشبه بتلك التي انتهجها ديغول تجاه الدولار الأميركي.
وبرز أمرٌ مثيرٌ ومستجدٌّ في موضوع الخلاف الأوروبي مع الولايات المتحدة، وهو انزياح بريطانيا من خندق الولايات المتحدة وتأييدها التاريخي السياسات الأميركية، حيث كان موقفها متناغما مع الموقف الأوروبي، فيما يخص الرسوم الجمركية الجديدة. وعبَّرت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عن موقف بلادها المحتج على هذه القرارات عبر اتصال هاتفي أجرته مع ترامب، وأبلغته خلاله أن الرسوم "غير مبرَّرة وتبعث على خيبة الأمل الشديدة". ويَشي
موقف لندن هذا، وهي التي طالما كانت ذراع واشنطن الأمني والاقتصادي في أوروبا، يشي بضرب التناغم الأميركي البريطاني، وبتغيير بريطانيا توجهاتها إلى زيادة التنسيق مع فرنسا وألمانيا، من أجل مواجهة سياسات ترامب.
من المرجح أن الأوروبيين قد تلقوا تصريحات ترامب المتكرّرة بشأن حلف شمال الأطلسي، ووصفه له بـ "المترهل"، والذي "عفا عليه الزمن" بقلقٍ بالغ، وزاد من قلقهم تصريحه عن عدم قدرة بلاده على الاستمرار في الدفاع عن أوروبا إلى الأبد. ولذلك سارعوا، خلال القمة الأوروبية التي اختتمت قبل أيام في بروكسل إلى إنشاء صندوق دفاع مشترك، إضافة إلى اتفاق تسع دول أوروبية على إنشاء قوة عسكرية مشتركة، لمواجهة الأزمات قرب حدود أوروبا. وهم بذلك، ربما يستعدّون لتلقي المفاجآت التي قد خرج بها ترامب عليهم، في قمة حلف شمال الأطلسي التي عقدت في بروكسل، في 11 يوليو/ تموز الجاري.
لقد تطلب الأمر من أوروبا نصف قرن لكي تكتشف أهمية استقلال سياساتها عن سياسة الولايات المتحدة التي دعا الجنرال ديغول الدول الأوروبية إلى انتهاجها أسوةً ببلاده. وربما اكتشف قادتها الآن مدى فداحة الخطأ الذي ارتكبته بتسليم واشنطن مفاتيح قرارها السيادي، تتحكّم به وتوجِّهُهُ وفق ما تقتضي مصالحها الجيوسياسية، إلى أن وصل بها الأمر إلى أَنْ عدَّت أوروبا قاعدتها المتقدمة، من أجل ضمان سلاسة تأمين هذه المصالح.
بعد صدمة أوروبا التي تلقَّتها على خلفية مشروع البريكست البريطاني، ثم امتصاصها تلك الصدمة التي كانت كفيلةً بتقويض الاتحاد الأوروبي، بفضل التنسيق الألماني والفرنسي وعزم الدولتين على إجراء إصلاحاتٍ طال انتظارها من أجل حفظه، وجَّه ترامب لها صدمةً جديدةً، عشية قمة كيبيك أخيرا. وتبدو أوروبا المعنية الأساس في قرارات ترامب الحمائية التي عزّزها بفرضه رسوماً جمركية مرتفعة على واردات بلاده من الألمنيوم والحديد، وقبلها في انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران. ثم جاءت قنبلته التي فجرها في القمة، حين طلب من المشاركين فيها إعادة روسيا إلى مجموعة الدول الصناعية الكبرى، على الرغم من العقوبات الاقتصادية الغربية عليها، والشقاق الكبير بينها وبين الأوروبيين على خلفية قضية تسميم الجاسوس الروسي المزدوج، سيرغي سكريبال، وابنته.
تنبع سياسة ترامب هذه، تجاه أوروبا، من رؤيته التي أعلنها في حملته للانتخابات الرئاسية، والتي تبنّى خلالها مفهوم "أميركا أولاً"، وما يتطلبه تحقيق هذا الشعار من إهمال مصالح شركاء بلاده الاقتصاديين، حيث جاءت مواقفه خلال قمة كيبيك التي عُقِدت في 9 يونيو/ حزيران الماضي، لتجعلهم يلمسون جدية توجهاته. إزاء هذه السياسة، لا تملك أوروبا سوى تبني سياساتٍ بديلةٍ عن التي تبنتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ما يجعلها تقترب من الرؤية التي طالما رفضتها، والتي أرادها الرئيس الفرنسي الراحل، الجنرال شارل ديغول، لأوروبا مستقلة عن الولايات المتحدة، تنتهج سياساتٍ أمنيَّةً تستجيب لمتطلباتها الذاتية، لا لمتطلبات الاستراتيجية الأميركية التي جعلت حلفاءها الأوروبيين يذعنون لها، وساقَتْهم بموجبها إلى حرب باردة مع الاتحاد السوفييتي، شريكهم في القضاء على النازية والفاشية في القارة الأوروبية. تلك الحرب التي شنتها أميركا بموجب سياسة الاحتواء التي تبنّتها لتوقف المد الشيوعي في العالم، جعلت أوروبا تعيش حالةً من التوتر استمرت عقوداً، واستنزفت قدراتها.
ولكن، هل تمتلك أوروبا خيارات للاستقلال عن الولايات المتحدة، وهي المُكَبَّلة بحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي رهَنَ قرارها بيد واشنطن، وناضلت حليفتها لندن لجعلها منطقة تبادل اقتصادي حر، تفتقد لأي دور سياسي فعال، صبغ سياستها منذ سبعينيات القرن الماضي؟ إن لم تمتلك تلك الخيارات، فإن سياسات ترامب ستدفعها إلى ابتداعها. وكما حصل حين أُعلِنَت نتائج البريكست في بريطانيا، إذ خرجت دعوات إلى تشديد وحدة الدول الأوروبية، تخرج الآن دعوات بضرورة إنصات ألمانيا لمطالب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بإصلاح الاتحاد، وإيلاء مشكلات دول جنوب أوروبا مزيداً من الاهتمام، ودعم التنمية فيها. كذلك دعواته إلى ضرورة تخلي ألمانيا عن هوسها بفوائض الموازنة والتجارة، لأن ذلك يكون دائماً على حساب مصالح الآخرين.
من جهة أخرى، بقي أمام الشركات الأوروبية بضعة أشهر للخروج من إيران، استجابةً للتهديد الذي أطلقه ترامب، حين دعاها إلى الخروج من هذا البلد، وإلا واجهت عقوباتٍ أميركية. ويأتي هذا التهديد في إطار العقوبات التي فرضتها واشنطن على إيران، والتي جاءت بعد إعلان ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الموقع مع إيران، سنة 2015. وتعد هذه الدعوة ازدواجيةً في المعايير ظهرت لدى الرئيس الأميركي، وهي تُوقع الأوروبيين في حيرةٍ من أمرهم. فهي تأتي قبل أيام من دعوته، في أثناء قمة كيبيك، الدول المشاركة في القمة، إلى إعادة روسيا إلى مجموعة الدول الصناعية الكبرى، التي أخرجت منها بعد ضمها للقرم، وفرض عقوبات غربية عليها إثر ذلك. وقد تدفع هذه الدعوة الدول الأوروبية إلى البحث عن سياسات ماليةٍ بديلة، أشبه بتلك التي انتهجها ديغول تجاه الدولار الأميركي.
وبرز أمرٌ مثيرٌ ومستجدٌّ في موضوع الخلاف الأوروبي مع الولايات المتحدة، وهو انزياح بريطانيا من خندق الولايات المتحدة وتأييدها التاريخي السياسات الأميركية، حيث كان موقفها متناغما مع الموقف الأوروبي، فيما يخص الرسوم الجمركية الجديدة. وعبَّرت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عن موقف بلادها المحتج على هذه القرارات عبر اتصال هاتفي أجرته مع ترامب، وأبلغته خلاله أن الرسوم "غير مبرَّرة وتبعث على خيبة الأمل الشديدة". ويَشي
من المرجح أن الأوروبيين قد تلقوا تصريحات ترامب المتكرّرة بشأن حلف شمال الأطلسي، ووصفه له بـ "المترهل"، والذي "عفا عليه الزمن" بقلقٍ بالغ، وزاد من قلقهم تصريحه عن عدم قدرة بلاده على الاستمرار في الدفاع عن أوروبا إلى الأبد. ولذلك سارعوا، خلال القمة الأوروبية التي اختتمت قبل أيام في بروكسل إلى إنشاء صندوق دفاع مشترك، إضافة إلى اتفاق تسع دول أوروبية على إنشاء قوة عسكرية مشتركة، لمواجهة الأزمات قرب حدود أوروبا. وهم بذلك، ربما يستعدّون لتلقي المفاجآت التي قد خرج بها ترامب عليهم، في قمة حلف شمال الأطلسي التي عقدت في بروكسل، في 11 يوليو/ تموز الجاري.
لقد تطلب الأمر من أوروبا نصف قرن لكي تكتشف أهمية استقلال سياساتها عن سياسة الولايات المتحدة التي دعا الجنرال ديغول الدول الأوروبية إلى انتهاجها أسوةً ببلاده. وربما اكتشف قادتها الآن مدى فداحة الخطأ الذي ارتكبته بتسليم واشنطن مفاتيح قرارها السيادي، تتحكّم به وتوجِّهُهُ وفق ما تقتضي مصالحها الجيوسياسية، إلى أن وصل بها الأمر إلى أَنْ عدَّت أوروبا قاعدتها المتقدمة، من أجل ضمان سلاسة تأمين هذه المصالح.