بعد دخول الثورة السورية عامها الرابع، انخفضت نسبة الدواء المصنع محلياً من 91% خلال عام 2010 إلى 30% بالوقت الحالي وفقاً لتقارير وزارة الصحة السورية، مما أدى إلى مشكلة اقتصادية وصحية كبيرة، إذ يعتمد كل من القطاع الصحي العام والخاص في سورية بشكل كلي تقريباً على إنتاج معامل الدواء المحلية، التي كانت قد اقتربت قبل بدء الأزمة من الوصول إلى الاكتفاء الذاتي، "فجميع الأنواع الدوائية كانت تصنع محلياً باستثناء مشتقات الدم والأدوية السرطانية واللقاحات التي يتم استيرادها حتى الآن" كما يوضح أحد الأعضاء السابقين في نقابة الصيادلة، الدكتور عمار آغا، لـ"العربي الجديد".
يقع 25 معملاً دوائياً اليوم ضمن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، معظمها في حلب، التي نالت معاملها الدوائية النصيب الأكبر من الأضرار والخسائر الناتجة من المعارك الدائرة في المدينة، بما أدى إلى تراجع مستوى الرعاية الصحية وتأمين الدواء، إذ إن معامل حلب مسؤولةً عن إنتاج 55% من الدواء المنتج محليا في سورية.
جغرافياً، تتوزع معامل الدواء السورية بين ثلاث محافظات، 40% منها في مدينة حلب و60 % في محافظتي دمشق وحمص، فيما تتوزع بين المناطق المحررة ومناطق النظام بنسبة الثلثين في مناطق النظام يقابلها ثلث في مناطق المعارضة.
المدير الطبي لأحد المعامل الدوائية في حلب الدكتور غسان القاضي يروي لـ"العربي الجديد" واقع المعامل في المناطق المحررة قائلاً: "يدير المعامل اليوم أشخاص تابعون للمالك، اضطررنا كغيرنا إلى وضع تسوية معينة مع كتائب الجيش الحر المتواجدة في المنطقة تقضي بحماية الكتيبة للمعمل مقابل مبالغ مادية باهظة ودعمٍ دوائي، وهوما تقوم به جميع معامل المناطق المحررة باستثناء معملين تسيطر عليهما كتائب الحر بشكل كامل، وثمانية معامل هي خارج الخدمة تماماً بسبب الأضرار التي لحقت بها".
إنتاج عسير
تعمل المعامل الدوائية في المناطق المحررة وسط بيئة عالية المخاطر كما يقول الدكتور القاضي، لافتاً إلى أن أبرز هذه المخاطر تتمثل بـ"قذائف المدفعية وطائرات النظام التي لم تستثنِ معامل الأدوية، ومنها معمله الذي نال نصيبه بعد أن سقطت أربع قذائف عليه دمرت مستودع المواد الأولية"، ويعدد الدكتور القاضي باقي الأخطار قائلاً: "نواجه البراميل المتفجرة، وخطر عمليات الخطف التي يتعرض لها العمال من قبل جهات مجهولة بهدف ابتزاز المعمل مادياً، إضافة الى خطر المسلحين الذين يحاولون السيطرة على المعامل كما فعلت داعش في معمل آسيا".
وتتراوح الطاقة الانتاجية للمعامل الدوائية السورية اليوم بين "ربع طاقتها الإنتاجية ونصفها" وفقاً لما قاله مدير قسم الإنتاج في أحد معامل حلب الدكتور علي محمود، والذي أوضح أن مصاعب تأمين موارد الطاقة كالكهرباء والمازوت وانخفاض اليد العاملة فيها أدى إلى انخفاض نسبة الإنتاج، يضيف الدكتور علي أن معامل الأدوية تواجه مشاكل في إيجاد طرق لترحيل النفايات منها، وتوفير خدمات الطوارئ ووسائل نقل للعمال، ما حول هذه المعامل الى ما يشبه المدينة المصغرة، حيث يعمل العمال ويبيتون في مكان واحد، مع عائلاتهم.
يؤكد تقرير للمنتدى الاقتصادي السوري أن المعامل الدوائية لجأت إلى إقالة عدد كبير من العاملين فيها تحت وطأة الأزمة المالية التي تعاني منها، وهو ما أدى إلى أن نسبة البطالة بين العاملين فيها وصلت الى 85%، كما أن معظمها لا تدفع أجور العمال بشكل منتظم".
الهندي والصيني
قيدت العقوبات الاقتصادية المفروضة على التعاملات المصرفية في سورية من عمليات شراء المواد الأولية للمعامل الدوائية، مما دفع الشركات الدوائية للبحث عن مصادر جديدة لهذه المواد، على رأسها الهند والصين، إلا أن انخفاض جودة هذه المواد مقارنة مع المستوردة أوروبياً دفع العديد من الموردين لإيجاد طرق التفافية يكشفها فاضل أحمد -مدير أحد مكاتب الاستيراد والتصدير- قائلاً إن المعامل الدوائية السورية أصبحت تتعامل مع مكاتب استيراد وتصدير لبنانية تقوم بتوريد كل ما تحتاج إليه المعامل السورية من بضائع أوروبية الى بيروت من ثم تنقل الى سورية، ويوضح أحمد أن ارتفاع أسعار المواد المكملة للصناعة مثل الزجاج والبلاستيك والكرتون أوجد أعباء إضافية على تكلفة الانتاج، مما دفع الشركات المحلية إلى طرح أدويتها دون تغليف كرتوني خارجي بتساهل من وزارة الصحة السورية.
تصدير سري
بالرغم من الحاجة المتزايدة إلى الدواء في السوق المحلية، لا تزال العديد من الشركات الدوائية تصدر منتجاتها إلى دول أخرى، يوضح الدكتور خالد الرشيد -مدير مبيعات بشركة دواء- الامر بالقول "معظم المعامل الدوائية السورية، خصوصاً الواقعة ضمن المناطق المحررة، تصدر جزءاً لا بأس به من انتاجها لدول أخرى أهمها العراق ودول آسيوية وافريقية، ويتم تصدير هذه البضائع إليها عن طريق توصيلها إلى الأراضي التركية وإعادة توزيعها عبر دول أخرى"، ويضيف "نتحمل مسؤولية أخلاقية لتأمين الدواء محلياً، الا أننا نضطر لتصدير جزء من الانتاج، ليعود على المعمل بقطع أجنبي وربح أكبر من شأنه أن يساعده على استمرارالانتاج وتفادي الخسارة، اضافة إلى أن التصدير عبر المناطق المحررة أسهل من توزيع الأدوية ضمن المدن السورية وأقل تكلفة في الظروف الحالية".
الحكومة السورية من جهتها فرضت مؤخراً قيوداً على تصدير الأدوية خارج البلاد في مسعى لسد حاجة الأسواق المحلية، إلا أنها لم تستطع ضبط عمليات التصدير التي تتم في المناطق التي لا تسيطر عليها، ويرى الدكتور هيثم إبراهيم - مدير إداري لأحد المعامل الدوائية - أن "تصدير الدواء حق لا ينبغي للمعامل التنازل عنه فهو الحل الوحيد الذي من شأنه إحداث توازن مالي للمعامل الدوائية" ويضيف "حتى قبل بدء الأزمة الحالية، اعتمدت المعامل الدوائية الوارد المادي من تصدير ما لا يقل عن 30% من إنتاجها إلى دول عربية وآسيوية وأفريقية".
شح محلي
يسجل الكثير من الأصناف الدوائية غياباً شبه تام من رفوف الصيدليات في جميع المدن السورية منذ أكثر من سنتين، وتكمن خطورة ذلك في عدم وجود تراكيب بديلة تغني عن تناول المريض لها، وأهم الأدوية المفقودة، هي: "النيتروجليسيرين"، وهو موسع وعائي إسعافي لمرضى الذبحة الصدرية، و"الدافلون" لعلاج اضطرابات الأوردة، و"التيروكسين" لاضطرابات الغدة الدرقية، إضافة الى بخاخات الربو، أنواع دوائية أخرى تتواجد بكميات غير كافية أيضاً، أو متناسبة مع حجم الطلب عليها، وهي، كما يحصرها الصيدلاني فارس عمر في تصريحات لـ "العربي الجديد" "أدوية السل والتهاب الكبد والأمراض المزمنة، كالضغط والسكري، السرطان".
أحمد نذير، مريض قلب يحتاج إلى تناول دوائه سريعاً، يقول لـ"العربي الجديد": "أُصبت بأزمة قلبية ولم يكن بحوزتي دواء النتروجليسرين لعدم توفره، مما أدى لاستفحال وضعي الصحي والاضطرار لنقلي للمشفى بحالة خطرة، دائماً ما نسمع بأن علينا تحمل ما يحدث في البلاد كغيرنا، لكن الفارق أن أصحاب المعامل والصيادلة يخسرون من أموالهم فقط بينما نخسر نحن صحتنا".
نقل المعامل إلى الساحل
إثر توقف عمل الكثير من المعامل الدوائية السورية في كل من حلب وحمص، قامت الحكومة السورية بمبادرة تهدف الى نقل معامل الدواء الى كل من محافظتي اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري، وبالفعل منحت الحكومة السورية موافقة مبدئية لـ 243 معملاً دوائياً، "لكن قرار الحكومة لم يلقَ تجاوباً كبيراً من قبل رجال الأعمال السوريين" كما يقول أسامة - مدير العلاقات العامة لإحدى شركات الأدوية - والذي أضاف أن "الكثير من رجال الأعمال السوريين وجدوا القرار خطوة من النظام لجر رؤوس الأموال إلى محافظات مقرّبة منه".
غياب الرقابة
في ظل انعدام الرقابة على عملية إنتاج الدواء، يشكو عدد من الصيادلة والأطباء من انخفاض جودة تصنيع بعض الأدوية، متهمين بعض الشركات الدوائية المحلية بتجاوزات في شروط ومعايير تصنيع الدواء.
يقول الصيدلاني عمر محمد: "نلمس تراجعاً في فاعلية الدواء لدى شركات محليّة بعينها، إذ يعود إليّ العديد من المرضى شاكين من عدم فاعلية الدواء، كما تلقيت شكاوى من عدد من الأطباء بسبب انخفاض الفاعلية أيضاً".
وعن ماهية التجاوزات الحاصلة في تصنيع الدواء، يوضح الدكتور ربيع جميل مدير قسم الجودة في أحد المعامل أن "تصنيع الدواء يمر بسلسلة طويلة من المراحل، والخلل في شروط تصنيع أيٍّ منها يؤدي إلى تراجع قيمة الدواء الطبية، أما أكثر التجاوزات شيوعاً اليوم، فهي اتجاه عدد من المعامل لاستعمال مواد أولية ذات مواصفات جودة منخفضة وبأسعار منخفضة، كوضع عناصر معدنية كيميائية مخصصة للصناعات غير الدوائية بدلاً من العناصر المعدنية الدوائية، إضافة إلى عدم مراعاة شروط النظافة والتعقيم والتخزين أثناء التصنيع".
ويضيف، "خلال موجة تخلّي المعامل عن موظفيها، فقدت العديد من كوادرها، ولم يبق إلا العمال الذين ليس لديهم معرفة بمراقبة سرعة التفكك أو ضبط كميات المواد الرابطة والمفككة، ما يؤثر على سرعة تأثير الدواء وكميته في دم المريض".