تعتبر الدنمارك نموذجاً اقتصادياً يحتذى به، ليس فقط من قبل دول الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً على الساحة العالمية، حيث تتقاطر وفود عديدة من دول العالم لزيارة هذا البلد الصغير الذي عثر على مزيج ناجح لاقتصاد ديناميكي، ومستوى عالٍ من الرعاية الاجتماعية. فمن جهة، تشترك الدنمارك بمجموعة من المزايا مع دول الرفاه في الشمال الأوروبي، والتي تتضمن درجة عالية من المساواة الاقتصادية والأمن الاجتماعي لمواطنيها. ومن جهة أخرى، لدى الدنمارك سوق عمل ديناميكية وقابلية تكيّف كبيرة مع تغيّر الظروف الخارجية، حيث أصبح اقتصادها يرتبط تقليدياً باقتصادات السوق الحرة.
وأدى تسارع وتيرة النهضة الصناعية التي مرت بها الدنمارك، بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر، إلى إنشاء نقابات عمالية قوية عملت على تحقيق التوازن المنشود مع القوى الرأسمالية المهيمنة على الساحة السياسية حينذاك. فمنذ دخولها عصر الحداثة الصناعية، ارتبطت الحركات النقابية، كما في غيرها من بلدان الشمال الأوروبي، ارتباطاً وثيقاً على الصعيد السياسي والتنظيمي بالحزب الديمقراطي الاشتراكي، فأصبح التفاعل في ما بينهم بمثابة القوة الدافعة الرئيسية التي أسهمت في تكوين نموذج حيوي يحتذى به في الرعاية الاجتماعية ورفاهية المواطنين.
تمكنت الدنمارك من التغلّب سريعاً على التفاوت الاقتصادي بين أفراد مجتمعها وهو في مهده، من خلال تقديمها خدمات مموّلة من العوائد الضريبية، تشمل التعليم والرعاية الصحية ورعاية كبار السن والأطفال، إضافة إلى طرحها نظام منافع اقتصادية يستفيد منه الجميع في حالات البطالة والمرض والعجز والشيخوخة.
ورغم أن الديمقراطيين الاشتراكيين كانوا يضعون الملكية العامة لوسائل الإنتاج على جدول أعمالهم السياسي، لكن في واقع الأمر، لم يسع أي أحد منهم إلى إلغاء الرأسمالية أو العمل على تهميشها، بل كانت هناك محاولات مضنية من أجل أنسنة الرأسمالية في صورتها المتوحشة، حيث ظهر الإصرار واضحاً على إرساء البنى الأساسية للمجتمع، وتدعيم حقوق الأفراد في المساواة، بدلاً من الاعتماد المطلق على اللعب الحر لقوى السوق.
علاوة على ذلك، لم يتم تدعيم أساسات النموذج الدنماركي عبر خطة رئيسية واحدة، إذ إن خلق تقدم اجتماعي للأفراد ذوي الدخل المنخفض يتطلّب عملية متدرّجة طويلة الأمد، وكفاحاً مستمراً بغية تحقيق توازن بين احتياجات أصحاب العمل، من جهة، وبين مصالح الأحزاب السياسية على اختلاف أطيافها الأيديولوجية، من جهة أخرى.
ازداد الاهتمام العالمي بالنموذج الدنماركي في أوائل التسعينات من القرن الماضي، عندما تمكنت الدنمارك، من بين بقية دول الاتحاد الأوروبي، من تحقيق معدلات بطالة أقل بكثير من المتوسط الأوروبي، وتسجيلها نجاحات متعددة على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية. نتيجة لذلك، يرى الكثيرون بأن الدنمارك تمكنت من ابتكار نموذج مجتمعي فريد من نوعه، والذي بدأ يُعرف، في ما بعد، بنموذج "الأمن المرن"، المرتبط، أساساً، بمرونة سوق العمل.
فرغم أن العامل الدنماركي أكثر عرضة للتسريح الوظيفي لأبسط الأسباب، مقارنة مع نظرائه الأوروبيين، فإن 10 آلاف دنماركي، فقط، يتم تسريحهم من وظائفهم من بين 800 ألف دنماركي يقومون بتغيير وظائفهم سنوياً، حيث تفضّل الغالبية العظمى الانتقال طواعية إلى ما يعتبرونه فرصة أفضل.
هذا يتناقض مع قوانين العمل السارية في العديد من الدول الأوروبية، مثل فرنسا، التي تجبر أصحاب العمل على دفع عقوبة عند تسريحهم للعمال، ما يجعل أصحاب العمل يترددون كثيراً قبل اتخاذ قرارات تتعلّق بالتوظيف.
في الواقع، فإن التجربة الدنماركية جديرة بالاهتمام فعلاً، فبدلاً من أن تقوم الدولة بتدعيم الأمن الوظيفي لعمالها، فإنها تقدم إعانات البطالة الحكومية لمن يتم تسريحه من عمله وبنسبة تصل إلى 90% من راتبه الأخير. رغم ذلك، فإن هذه الإعانات ليست بلا حدود؛ إذ يمكن للدنماركيين الحصول على هذه الإعانات على مدى أربع سنوات فقط، وهو ما يقدم الحافز للعاطلين من العمل، طيلة هذه الفترة، للعثور على وظيفة تناسب طموحاتهم العملية. وللحصول على هذه الإعانات، على الدنماركيين أن يكونوا على استعداد تام للعمل في وظائف أوجدتها لهم مراكز التوظيف الحكومية، حيث تتعهّد الحكومة بتدريبهم وتعليمهم مجاناً بغية تجهيزهم لشغل الوظائف الجديدة.
واليوم، تمتلك الدنمارك رابع أعلى نسبة من حَمَلة الشهادات الجامعية في العالم، وأدنى مستوى في العالم من حيث عدم المساواة في الدخل، حيث باتت موطناً لكثير من الشركات متعددة الجنسيات.
(محلل اقتصادي أردني)
وأدى تسارع وتيرة النهضة الصناعية التي مرت بها الدنمارك، بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر، إلى إنشاء نقابات عمالية قوية عملت على تحقيق التوازن المنشود مع القوى الرأسمالية المهيمنة على الساحة السياسية حينذاك. فمنذ دخولها عصر الحداثة الصناعية، ارتبطت الحركات النقابية، كما في غيرها من بلدان الشمال الأوروبي، ارتباطاً وثيقاً على الصعيد السياسي والتنظيمي بالحزب الديمقراطي الاشتراكي، فأصبح التفاعل في ما بينهم بمثابة القوة الدافعة الرئيسية التي أسهمت في تكوين نموذج حيوي يحتذى به في الرعاية الاجتماعية ورفاهية المواطنين.
تمكنت الدنمارك من التغلّب سريعاً على التفاوت الاقتصادي بين أفراد مجتمعها وهو في مهده، من خلال تقديمها خدمات مموّلة من العوائد الضريبية، تشمل التعليم والرعاية الصحية ورعاية كبار السن والأطفال، إضافة إلى طرحها نظام منافع اقتصادية يستفيد منه الجميع في حالات البطالة والمرض والعجز والشيخوخة.
ورغم أن الديمقراطيين الاشتراكيين كانوا يضعون الملكية العامة لوسائل الإنتاج على جدول أعمالهم السياسي، لكن في واقع الأمر، لم يسع أي أحد منهم إلى إلغاء الرأسمالية أو العمل على تهميشها، بل كانت هناك محاولات مضنية من أجل أنسنة الرأسمالية في صورتها المتوحشة، حيث ظهر الإصرار واضحاً على إرساء البنى الأساسية للمجتمع، وتدعيم حقوق الأفراد في المساواة، بدلاً من الاعتماد المطلق على اللعب الحر لقوى السوق.
علاوة على ذلك، لم يتم تدعيم أساسات النموذج الدنماركي عبر خطة رئيسية واحدة، إذ إن خلق تقدم اجتماعي للأفراد ذوي الدخل المنخفض يتطلّب عملية متدرّجة طويلة الأمد، وكفاحاً مستمراً بغية تحقيق توازن بين احتياجات أصحاب العمل، من جهة، وبين مصالح الأحزاب السياسية على اختلاف أطيافها الأيديولوجية، من جهة أخرى.
ازداد الاهتمام العالمي بالنموذج الدنماركي في أوائل التسعينات من القرن الماضي، عندما تمكنت الدنمارك، من بين بقية دول الاتحاد الأوروبي، من تحقيق معدلات بطالة أقل بكثير من المتوسط الأوروبي، وتسجيلها نجاحات متعددة على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية. نتيجة لذلك، يرى الكثيرون بأن الدنمارك تمكنت من ابتكار نموذج مجتمعي فريد من نوعه، والذي بدأ يُعرف، في ما بعد، بنموذج "الأمن المرن"، المرتبط، أساساً، بمرونة سوق العمل.
فرغم أن العامل الدنماركي أكثر عرضة للتسريح الوظيفي لأبسط الأسباب، مقارنة مع نظرائه الأوروبيين، فإن 10 آلاف دنماركي، فقط، يتم تسريحهم من وظائفهم من بين 800 ألف دنماركي يقومون بتغيير وظائفهم سنوياً، حيث تفضّل الغالبية العظمى الانتقال طواعية إلى ما يعتبرونه فرصة أفضل.
هذا يتناقض مع قوانين العمل السارية في العديد من الدول الأوروبية، مثل فرنسا، التي تجبر أصحاب العمل على دفع عقوبة عند تسريحهم للعمال، ما يجعل أصحاب العمل يترددون كثيراً قبل اتخاذ قرارات تتعلّق بالتوظيف.
في الواقع، فإن التجربة الدنماركية جديرة بالاهتمام فعلاً، فبدلاً من أن تقوم الدولة بتدعيم الأمن الوظيفي لعمالها، فإنها تقدم إعانات البطالة الحكومية لمن يتم تسريحه من عمله وبنسبة تصل إلى 90% من راتبه الأخير. رغم ذلك، فإن هذه الإعانات ليست بلا حدود؛ إذ يمكن للدنماركيين الحصول على هذه الإعانات على مدى أربع سنوات فقط، وهو ما يقدم الحافز للعاطلين من العمل، طيلة هذه الفترة، للعثور على وظيفة تناسب طموحاتهم العملية. وللحصول على هذه الإعانات، على الدنماركيين أن يكونوا على استعداد تام للعمل في وظائف أوجدتها لهم مراكز التوظيف الحكومية، حيث تتعهّد الحكومة بتدريبهم وتعليمهم مجاناً بغية تجهيزهم لشغل الوظائف الجديدة.
واليوم، تمتلك الدنمارك رابع أعلى نسبة من حَمَلة الشهادات الجامعية في العالم، وأدنى مستوى في العالم من حيث عدم المساواة في الدخل، حيث باتت موطناً لكثير من الشركات متعددة الجنسيات.
(محلل اقتصادي أردني)