14 مارس 2020
الدستور السوري.. بعيداً عن السياسة
أحمد طرقجي
تعدّدت الدساتير السورية وظروف تعديلها منذ الاستقلال في 1946. ولكن دساتير كثيرة منها، ربما باستثناء دستور 1950، عكست رغبات المجموعات الحاكمة على مر السنين في التضييق على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحجة الحالة الثورية والظروف التاريخية الاستثنائية. وقد أثرت هذه الضغوط ودوافع التغيير على قدرة الدستور السوري على البقاء مرجعية تاريخية للعقد الاجتماعي الوطني بين السوريين. إلا أن الانتقال الدستوري القادم في سورية، إن حدث، سيكون الأكثر أهمية في تاريخ الدولة. من هنا تنبع أهمية دور المجتمع المدني السوري في التفاعل مع السوريين، للمساعدة على تشكيل تصور مقبول عن مواد هذا الدستور أولاً، وثانياً لتحديد منصات وطنية مستقلة قادرة على الدفاع عن تطلعات الشعب، ومنع تحويل الدستور أداة تُفقد السوريين سيادتهم أو مواطنتهم.
لعله من المهم، بداية، التذكير بأن سورية صادقت على نحو عشرة دساتير، مؤقتة أو دائمة، خلال المائة عام الماضية، وأن صيغة الحكم الرئاسي طغت على هذه الدساتير منذ عهد الوحدة مع مصر (1958 – 1961)، كما أن من المهم أيضاً التأكيد على أن الحرب في سورية لم تبدأ بسبب خلاف على مواد دستورية.
بعيدًا عن الصراع السياسي الحالي على موضوع انتقال السلطة، فإن مواد كثيرة في الدستور
السوري بحاجة للتطوير والتوضيح، لتضبط القوانين التنفيذية المتعلقة بها. وتعتبر مواد المواطنة فيه من الأكثر حاجة للتطوير، حيث ينص دستور 2012، في المادة 33، على أن "المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها كل مواطن ويمارسها ضمن القانون". وتتبعه المادة 48 ب "ينظم القانون الجنسية العربية السورية"، إلا أن تعريف المواطن قد همّش، ولم يؤطر الدستور أي مبادئ عامة تتعلق بتعريف المواطن وآليات حماية المواطنة من الضياع أو الإلغاء أو الانتقاص، بسبب التغييرات الديموغرافية والحروب والتهجير، وهو ما واجهته مجموعة من أكراد الجزيرة السورية في العقود السابقة. وحتماً سيصبح جوهريا لشريحةٍ واسعةٍ من الشعب السوري، إذا ما تم طرح أي استفتاء رئاسي أو دستوري في المستقبل. كما أن هذه المواد تُبقي على أوضاع المجتمعات السورية غير العربية، كالأكراد والأرمن والآشوريين، في حالة تناقض مع المفردات الدستورية المتعلقة بتعريف الجنسية العربية السورية.
تناقضٌ مشابه في ملف استقلال القضاء. أحد أمثلته ضوابط المحكمة الدستورية العليا، فبينما توضح المادة 146 أن المحكمة الدستورية "تختص بالرقابة على دستورية القوانين والمراسيم التشريعية واللوائح والأنظمة"، تعاكسها مباشره المادة 148 من الدستور الحالي "لا يحق للمحكمة الدستورية العليا أن تنظر في دستورية القوانين التي يطرحها رئيس الجمهورية على الاستفتاء الشعبي، وتنال موافقة الشعب".
كما يقع الدستور الحالي في مناقضة غريبة من ناحية الرقابة على السلطة التنفيذية، فبينما يترأس رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية، ويعين رئيس مجلس الوزراء والوزراء (مادة 79)، ويضع في اجتماع مع مجلس الوزراء برئاسته السياسة العامة للدولة، ويشرف على تنفيذها (مادة 98)، فإن مجلس الوزراء، وليس رئيس الجمهورية، هو المسؤول والمُحاسَب أمام مجلس الشعب.
انطلاقًا من كثرة هذه التناقضات، وعدم وضوح السياق العام لدستور 2012، فإن محاولات إدخال مواد جديدة، أو تعديل بعض المواد، لا يبدو أنها قادرة على تأسيس عقد اجتماعي وطني قادر على نقل سورية إلى مرحلة التعافي. كما تبدو دعوات بعضهم إلى ترجمة وتبني دستور إحدى الدول "المتقدمة" مستغربة، لأن هذه الدساتير لن تعبر عن حاجات السوريين وخصائصهم، كما أن مجرد الطرح مهين للخبرات القانونية والدستورية السورية.
من هنا، يأتي طرح دستور مؤقت قادر على طرح أُطر حوكمة تساعد على تعافي بنية الدولة
والمجتمع من المرحلة الحالية، وقادر على نقل هذا العقد الاجتماعي بين السوريين إلى دستور مستقبلي دائم. والعقدة الأساسية هنا هي في كيفية تشكيل هيئة دستورية، منتخبة أو وجاهية، تمثل أطياف الشعب السوري ومؤمنة بتنوعه. هيئة يجب أن تكون قادرةً على التفاعل المباشر مع الناس، لفهم تصوراتهم وكسب ثقتهم، وقادرة على وضع هذه التصورات، على الأقل، في دستور مؤقتٍ ليشعر جميع السوريين بأنهم أصحاب هذا الدستور والمعنيون به. هنا تحديداً يبرز دور المجتمع المدني الوطني والنقابات والمجالس المحلية لإيجاد منصّاتٍ يعبر منها السوريون عن آرائهم وتطلعاتهم من هذا العقد الوطني الاجتماعي بين جميع السوريين. هذا النوع من التواصل مع المواطنين ضرورة وطنية، وأحد ركائز العملية الدستورية الوطنية.
ما شوهد في اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف لا يمت بأي صلةٍ للعملية الدستورية، فمبعوثو النظام والمعارضة على حد سواء يحضرون بدون تفويض شعبي لأشخاصهم لتطوير الدستور، وبدون أجندة واضحة عن رؤيتهم المفترضة المبنية على تداولهم العلني مواد الدستور مع المواطنين.
خلال المائة عام السابقة، كانت الانتقادات تركز على أن صناعة الدستور السوري عملية نخبوية بعيدة عن الشعب. أما الآن، فسوريون كثيرون متخوفون، لأن الدستور قد يصنع بعيدا عن الشعب، وعن الوطن.
بعيدًا عن الصراع السياسي الحالي على موضوع انتقال السلطة، فإن مواد كثيرة في الدستور
تناقضٌ مشابه في ملف استقلال القضاء. أحد أمثلته ضوابط المحكمة الدستورية العليا، فبينما توضح المادة 146 أن المحكمة الدستورية "تختص بالرقابة على دستورية القوانين والمراسيم التشريعية واللوائح والأنظمة"، تعاكسها مباشره المادة 148 من الدستور الحالي "لا يحق للمحكمة الدستورية العليا أن تنظر في دستورية القوانين التي يطرحها رئيس الجمهورية على الاستفتاء الشعبي، وتنال موافقة الشعب".
كما يقع الدستور الحالي في مناقضة غريبة من ناحية الرقابة على السلطة التنفيذية، فبينما يترأس رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية، ويعين رئيس مجلس الوزراء والوزراء (مادة 79)، ويضع في اجتماع مع مجلس الوزراء برئاسته السياسة العامة للدولة، ويشرف على تنفيذها (مادة 98)، فإن مجلس الوزراء، وليس رئيس الجمهورية، هو المسؤول والمُحاسَب أمام مجلس الشعب.
انطلاقًا من كثرة هذه التناقضات، وعدم وضوح السياق العام لدستور 2012، فإن محاولات إدخال مواد جديدة، أو تعديل بعض المواد، لا يبدو أنها قادرة على تأسيس عقد اجتماعي وطني قادر على نقل سورية إلى مرحلة التعافي. كما تبدو دعوات بعضهم إلى ترجمة وتبني دستور إحدى الدول "المتقدمة" مستغربة، لأن هذه الدساتير لن تعبر عن حاجات السوريين وخصائصهم، كما أن مجرد الطرح مهين للخبرات القانونية والدستورية السورية.
من هنا، يأتي طرح دستور مؤقت قادر على طرح أُطر حوكمة تساعد على تعافي بنية الدولة
ما شوهد في اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف لا يمت بأي صلةٍ للعملية الدستورية، فمبعوثو النظام والمعارضة على حد سواء يحضرون بدون تفويض شعبي لأشخاصهم لتطوير الدستور، وبدون أجندة واضحة عن رؤيتهم المفترضة المبنية على تداولهم العلني مواد الدستور مع المواطنين.
خلال المائة عام السابقة، كانت الانتقادات تركز على أن صناعة الدستور السوري عملية نخبوية بعيدة عن الشعب. أما الآن، فسوريون كثيرون متخوفون، لأن الدستور قد يصنع بعيدا عن الشعب، وعن الوطن.
دلالات