منذ بدايات الألفية الجديدة، بدا التلفزيون في المغرب وكأنه في صورة وفاء وتماهٍ مع الإنتاج التلفزيوني الأجنبي، سواء المصري أو المكسيكي أو الهندي أو حتى التركي، مقارنة بالمنتوج الدرامي الوطني، الذي أضحى هزيلاً على مستوى الكيف، وغير مُستساغ للمشاهد المغربي الذي أصبح يبحث عن واقع حالم وبديل عن الواقع والاجتماعي الحالي المُزري.
وبالتالي، فإن هذا المشاهد يجد في هذه الدراما الأجنبية ضالته وملاذه البصري الآمن، تجعله يقبل بشراهة على مشاهدة هذه المسلسلات التركيّة بلهجة عاميّة يفهمها. وتُتيح له إمكانية أن يحلم ويبتعد قليلاً عن المألوف داخل الدراما المغربية، ومشاكلها الفنية والتقنية والموضوعية العويصة ووقائعها الرتيبة. الأمر الذي يجعل من هذا المشاهد يفضل هذه المسلسلات الأجنبية، ويتتبع حلقاتها التي تستنفد أحياناً سنة بأكملها. لكنها مع ذلك، لا تُشكّل له مشكلة، فهو يعشقها ومُدمنٌ على مشاهدتها كل مساء، وأحياناً يُتابع الحلقة نفسها مرتين، حتى يستلذ ببعض مشاهدها المُتمحورة حول الحب والعداء والخيانة والصداقة وسواها من الموضوعات المُتكرّرة من مسلسل إلى آخر، يُتوجها المُخرج بعناية فائقة بالصور والإكسسوارات المُتنوعة وجماليّات أجساد البطل والبطلة داخل فضاءات مُتعدّدة داخل الأراضي التركيّة.
كما أنَّ المشاهد المغربي، لا تعنيه الأمور الفنية للمسلسل، ومدى قدرة هذا المنتوج البصري على التقاط تفاصيل الحكاية والتعبير عنها بشغف أو حتى جودة النصّ المكتوب، ومدى تحرّره من التنميطات التلفزيونية الأخرى، لأنه مأخوذ بجماليّات الصورة وسحرها الفائق من خلال الألبسة والألوان البصرية والموسيقى التركيّة والمشاهد السياحية المُكثفة التي جعلت آلاف من المغاربة، يُسافرون إلى تركيا لزيارة هذه الأمكنة السياحية، والتي صُوّرت فيها هذه المشاهد التلفزيونية. لذلك فإن هذه المسلسلات التركيّة، وتأثيرها على المخيال المغربي، قد تجاوزت صناعتها الأبعاد التلفزيونية والفنية والجمالية، وأصبحت لها علاقة أساساً بأبعادٍ اقتصادية وسياحية صرفة، أو هي بالأحرى غزو بصريّ لنمط التفكير المغاربي، ومحاولة فرض أفكار وتصورات وتمثُّلات جديدة انطلاقاً من النموذج التلفزيوني التركي. لكن هل يعي التلفزيون المغربي هذه الأبعاد الخفيّة التي تكاد تضرب في صميم الهوية المغربية؟
كما أنّ هذا الإدمان البصري على المسلسلات التركيّة، لم يبقَ حبيس المُشاهد المغربي العادي، بل انتقل حتى إلى المؤسسة الرسمية الوطنية التي ترعى بث هذه المسلسلات، حتى تنقذ نفسها من ضياع الهالة وانخفاض معدلات المشاهدة، وما يترتب عن ذلك من مداخيل هزيلة جداً، جعلت التلفزيون المغربي في السنوات القليلة الماضية، يُركز على هذه المسلسلات التركية. فإلى جانب ما تحبل به من خصائص جمالية وفنية، فهي تُحقّق له أرباحاً هائلة، حتى غدت أخيراً هذه الأعمال التركيّة المُدبلجة إلى لغة الكلام الحيّة أو الدارجة المغربية، عملة رائجة ومُربحة للتلفزيون المغربي. وأصبحت تحتل فيه ركيزة أساسية وقوية ضمن أجنداته الفنية، جاعلاً من هذه المسلسلات الدرامية في طليعة هذه الإنتاجات السنوية، إذ يصل عدد مشاهداتها إلى حوالي 5 ملايين، مقارنة مع الدراما المغربية التي أضحت مثل الفولكلور البصري، لا أحد يرغب في مُشاهدتها، سواء من الممثلين أو النقاد المهتمين بالشأن التلفزيوني والسينمائي، أو حتى المُشاهدين المغربيين العاديين رجالاً
ونساء، إذ يستلطفون هذه المسلسلات التركيّة ويترقبون موعدها مع بداية كل مساء.
كل هذه التحولات النفسيَّة والجمالية والاجتماعية التي ألمّت بالمشاهد المغربي في السنوات الماضية، جعلت التلفزيون المغربي يفكّر في إمكانية الاستمرار بقوة في شراء هذه المسلسلات التركيّة المُدبلجة، إذ يختلف ثمن المسلسل عن الآخر، بالنظر إلى قصته وحبكته وجماليّات صُوَره وشهرة المسلسل، وانطلاقاً مما يُحدثه من رجّات داخل المجتمع العربي في لغته التركيّة الأصل. فضلاً عن عامل مهم جداً هو ما يستقطب المشاهدين المغاربة، ويتمثّل في سمعة المُمثل، خاصة أنّ التلفزيون المغربي، أصبح يُراهن في هذه المسلسلات على الأسماء الفنية التركيّة الشهيرة، التي يعرفها المغاربة جيداً، ليس بأسمائها الحقيقية وإنما باسم الدور الذي لعبه الممثل التركي في آخر مسلسل شاهده له. مثل الممثلين التركيين الشهيرين في المخيال المغربي: "مهند" (كيفانش تاتليتوغ) و"نور" (سونغل أودن) وغيرهم من الممثلين الجدّد، والذين بمجرد أن تظهر صورهم على إشهار القنوات الأولى والثانية قبل بدء المسلسل، حتى يستعد المشاهد المغربي لسنة كاملة من المُتعة البصرية وإلى الحديث الدافئ وهم يتابعون مسار الحكاية وشخصياتها وهي تحفر مجراها عميقاً داخل المسلسل، وتصنع لها أرقاماً عالية من المشاهدة. لكن، يظلّ التلفزيون المغربي، هو المُستفيد من هذه العلمية التجارية.
وجدير بالذكر أنَّ المسلسلات الدرامية التركيّة لا تختلف كثيراً عن المسلسلات الهندية، من حيث الموسيقى والمشاهد السياحية وقوة البطل وتبجيل قيّم الخير والحب، وأيضًا من ناحية "قيمة" العمل التلفزيوني ومدى استرسال مفهوم القصة أو الحكاية وتشعبها داخل النسيج الاجتماعي، خاصة أنهما معاً، يطرقان موضوع الحب والخيانة والانتقام والحسد، عاملين على البحث والتنقيب عن قيّم إنسانية فاضلة ومُثُلٍ عليا، حيث تتغلب في نهاية المسلسل قوى الخير على الشر.