الخيمة البريطانية والقالب الفرنسي

11 مايو 2016
+ الخط -
الذين صوّتوا، الأسبوع الماضي، على عمدة لندن، صادق خان، لم يصوّتوا فقط لعمدة مسلم، أصله من باكستان، هاربين من عدوى الإسلاموفوبيا وسمومها الدعائية، ولم يصوّتوا فقط ضد مرشح غني، وقفت خلفه مؤسسة الحزب المحافظ كلها مستعملةً سلاح التخويف من المسلمين، وحشرهم جميعاً في قفة التطرف. الذين صوّتوا بنسبةٍ كبيرةٍ لصادق خان، واضعين ميزانية 17 مليار جنيه استرليني في يده، ليدير شؤون 8,5 ملايين بريطاني، صوّتوا أيضاً للنموذج البريطاني في إدماج المهاجرين، والذي أصبح محل تشكيك منذ انتشار موجة الإرهاب في أوروبا، وظهور خلايا متطرفة وسط مسلمي القارة العجوز، لم تجد من طريق للاحتجاج على أوضاعها سوى بالاستثمار في مشاريع الإرهاب وسياسة ترويع الأبرياء.
فوز باكستاني مسلم بعمادة لندن انتصار ضمني للمقاربة البريطانية في التعاطي مع المهاجرين، حيث تسمح التجربة الأنغلوسكسونية المبنية على الاعتراف بالتعددية الثقافية للمجتمع البريطاني، وبتعدّد الروافد في البلاد الواحدة، وبالسماح للمهاجرين بالاحتفاظ بهوياتهم وثقافاتهم وخصوصياتهم، بحيث لا تشترط بريطانيا على مهاجريها دفتر تحملات (هوياتي)، ليصيروا بريطانيين، إنها سياسةٌ تراهن على تفاعل مكونات المجتمع تحت خيمة البلد الواسعة، وتعوّل على الزمن الضروري لعملية الإدماج، وتوفر مناخ المساواة في الحقوق والواجبات، حتى يشعر المهاجر أنه في بلده، وليس ضيفاً عابراً، وهو الأمر الذي يدفع الأغلبية الساحقة من المهاجرين، مسلمين وغير مسلمين، إلى الانتماء إلى التيار العام الوسطي، بحيث يتأقلم المهاجر تلقائياً مع البلد الذي يعيش فيه، من دون تدخل مباشر من الدولة، ومن دون إكراه أو فرض نموذجٍ صلب من الاندماج القسري على المهاجر، بحيث يدفع هذا التدخل الخشن من الدولة في هوية المهاجر إلى التطرف أو الانعزال إلى الضواحي أو اللجوء إلى إعلاء خصوصياته، للدفاع عن ذاته وهويته المهددة.
على عكس من هذه المقاربة الناعمة للاندماج الطوعي للمهاجرين في البيئة البريطانية، هناك المقاربة الفرنسية التي تطلب من المهاجر أن يضع متاعه الثقافي والديني والاجتماعي عند الباب، ويدخل إلى قالب فرنسي معد سلفاً، مبني على إتقانٍ كامل للغة الفرنسية، والتزامٍ صارم بالعلمانية الصلبة وقيم الجمهورية، كما ترسخت وسط الفرنسيين الذين يعتبرون من أقل الشعوب خوضاً لتجربة الهجرة والانفتاح على العالم (يعيش خارج فرنسا 1,5 مليون فرنسي فقط، وهي أضعف نسبة للهجرة في العالم، ما يكشف إلى أي حد لا توجد ثقافة للهجرة وسط الفرنسيين)، لا يستطيع أحد أن يتصوّر، مثلاً، انتخاب عمدة لباريس من أصل مغربي أو جزائري أو تونسي.
وجهت انتقاداتٌ قويةٌ إلى التجربة البريطانية في إدماج المهاجرين، باعتبارها سياسةً تسمح بإقامة غيتوهات للمهاجرين الذين يحملون ثقافاتهم إلى بريطانيا، من دون مجهودٍ للتأقلم مع خصوصيات البلد، وهو ما يضعف، حسب هذا الزعم، ولاء المهاجرين لبريطانيا، ويجعل منهم (عملاء) لبلدانهم وثقافتهم ودينهم. صعود خان إلى عمادة لندن، وتصويت أكثر من مليون ونصف مليون بريطاني لبرنامجه كان تصويتاً، أيضاً، لفائدة نموذج في الإدماج والاندماج، بما له وما عليه، فلا توجد سياسة ناجحة مائة في المائة، فكل حل لمشكلةٍ يولّد مشكلةً أخرى، تحتاج إلى حل آخر.
قصة صعود ابن سائق الباص إلى قيادة مدينة عالمية يضرب، في العمق، سياسة اليمين الأوروبي المتعصّب الذي يريد استغلال موجة الإرهاب (الداعشي) و(القاعدي) لزرع الخوف في النفوس، كما أن قصة نجاح، صادق خان، تكشف هشاشة المشروع السلفي الجهادي الذي يريد أن يعزل الكتلة المسلمة الكبيرة في الغرب عن مجتمعها بتوظيف الحلقات الضعيفة من أبناء الجيلين، الثاني والثالث، في عمليات يائسة، وإرهاب وحشي لا يصب سوى الزيت على النار، ويزيد من إضعاف السلميين في الغرب، وتقوية النزعات اليمينية المتطرفة.
في الوقت الذي ينتخب البريطانيون باكستانياً مسلماً ابن عائلة مهاجرة عمدة لمدينتهم، ويقبلون به كما هو، يتقاتل المسلمون في العراق وسورية واليمن، شيعة ضد سنة، ويتفرّق الليبيون قبائل وعشائر لا ترضى بغير حكم الجاهلية، ويسيل الدم في العالم العربي على نحر هوياتٍ قاتلةٍ، لا تعرف كيف تعيش فتصدّر الموت، لا تعرف كيف تتعايش فتنتج فائضاً من الإقصاء، يزيد عن حاجتها لإشعال نيران الحروب الأهلية.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.