الخوف والفقر صنوان

19 فبراير 2015
أرتدي ثياب قريباتي (Getty)
+ الخط -
ألتقي رفيقتي في ساحة شتورا في البقاع هذه المرّة. نشرب القهوة، نتناقش حول من منّا تحب البقاع أكثر، ومن منّا تحب بيروت أكثر. نراقب المتسولين الذين يملؤون الساحة، وتسألني صديقتي: "هل نحن فقراء؟" لطالما شغلني هذا السؤال الذي لا أعرف إجابته حتى الآن. أمرٌ واحد أعرفه فقط. الخوف والفقر صنوان.

عندما كنت في السادسة، كنا نزور خالتي التي سكنت فترة في مخيم برج البراجنة في بيروت خلال الأعياد. اعتقدتُ أنّ بيتنا أصغر البيوت على الإطلاق، ولكن بيت خالتي كان أصغر. كل شيء هناك أصغر. البيوت، والطرقات، ومساحات التنفس، وحتى خالتي. الناس يبدون أصغر حجماً، وكأنهم تقصّدوا ذلك كي يتسع المخيم لهم. يعودون إلى أحجامهم الطبيعية عندما يغادرونه.

أراقب كل هذا، ولا أخاف. لا أخاف من البيوت التي قد تهوي علينا، ولا من الهواء الذي لا يكفينا جميعاً، ولا من مشاجرات أطفال غرباء حول مرجوحة العيد هناك. لا أخاف أبداً، بل أقتنع بسذاجة الأطفال أنني غنية.

في قريتي، أشعر مجدّداً أنني فقيرة، وأخاف. كيف يمكن لأطفال لم يتعدوا العاشرة أن يخافوا؟ كلما طرق أحدهم بابنا، نخاف. نخاف أن يكون الطارق جابي الكهرباء مثلاً، أو الرجل الذي ندين له بثمن أدواتنا الكهربائية، أو حتى المرأة التي ندين لها بثمن ثياب العيد التي نكرهها.

نتهامس أنا وإخوتي، ولا نفتح الباب. أفتح الباب أحياناً، ويسألني الطارق عن والدي. أنفي وجوده في المنزل كل مرة، رغم أنّه كان موجوداً طوال الوقت. تأتي أمي أحياناً قبل مغادرة الطارق، وأكتشف أنّه أحد أصدقاء العائلة. تعتذر أمّي منه، تدخله، وتؤنبني على كذبي. كيف أشرح لأمي أني وإخوتي نخاف لأننا فقراء؟

أين أخاف أيضاً؟ في محلات الثياب. صديقتي تقول أنها تخاف هناك أيضاً. لا أتذكر أنني انتقيت ثيابي يوماً في الطفولة. أرتدي ثياب قريباتي التي تصغر على مقاساتهن. لم أعرف يوماً أي لون أفضّل. أفضّل أي لون يمكن أن يملأ خزانتي الخاوية. ولم أعرف مقاسي يوماً، ولم أهتم. أضيّق، أقصر، وأطوي الأكمام. كل الثياب تناسبني. الثياب الوحيدة التي اشتريتها كانت في الأعياد، ولم أخترها أيضاً. تستدين أمي أرخص الثياب لنا، نحن أولادها الخمسة، كي نفرح في العيد.

توجهت وحدي إلى محل لبيع الثياب في سنتي الجامعية الأولى. كانت تلك المرّة الأولى. نظرت إلى الثياب، وكدت أختنق. أنظر إلى المقاسات، وأحاول تخمين قياسي، ولا أفلح. فقدت الأمل وغادرت. صديقتي نفسها حدّثتني بعد أسبوع. قالت إنها ذهبت لتشتري ثياباً جديدة، ولم تعرف مثلي. صرنا نترافق لشراء الثياب منذ ذلك الوقت.

لم أشرح لصديقتي كل هذا. قلت لها فقط إنّنا فقراء. الغريب، أنّه في هذا اليوم تحديداً كنت أملك مالاً أكثر من أي يوم آخر في حياتي، ولكنني قلت إننا فقراء. قلتها ببساطة ومن دون تفكير مسبق. لمَ قلت ذلك؟ لا أعرف. كنت خائفة ربما؟ نعم. ماذا يعني هذا؟ شيء واحد فقط. الخوف والفقر صنوان.

إقرأ أيضاً: كيف مات بائعو الفول.. أصدقائي؟
المساهمون