الخروج من سايكس بيكو
منذ انتهاء الحقبة الناصرية، انتقلت خيارات الشعب الفلسطيني، ممثلة بحركته الوطنية وقياداته الشرعية، من الاعتماد على الأمة لتحرير فلسطين وإعادة الحق الضائع، إلى الاعتماد على النفس، والعمل لاستعادة شرعية تمثيل الشعب والقضية الفلسطينية بشكل كامل ووحيد، وهو ما عبّر عنه مؤتمر القمة العربية في الرباط عام 1974. هل كان هذا الخيار السليم الذي ينظر إلى الأمور، اعتباراً مما حدث في 1967 من هزيمة واحتلال أجزاء إضافية من فلسطين، وهزيمة الفكر الناصري عملياً، وإخراج المقاومة الفلسطينية من الأردن، ثم من لبنان، يستنتج أن ذلك الاختيار كان سليماً.. لكن، من ينظر إلى الإنجازات التي تحققت، منذ الالتزام بهذه الاستراتيجية، وما وصلت إليه الأمور من تقسيم للمُقسم، واعتراف بوجود إسرائيل من دول كثيرة ودول عربية، وحتى من منظمة التحرير، وإخراج الضفة الغربية من أطر القانون الدولي "أرضاً محتلة"، ونسبتها إلى دولة مُعترف بها هي الأردن، ومن ثم لإعادة تنسيبها إلى لا أحد، "أرضاً مُتنازعاً عليها" لا يملكها أحد. كذلك اتفاقيات أوسلو ونتائجها السلبية على مسار القضية، وتراجعنا من تحرير فلسطين إلى إقامة دولة فلسطينية بجوار إسرائيل، وغيرها، قد يستنتج أن هذه الاستراتيجية كانت خاطئة، والواقع بعد ستين سنة يؤكد ذلك.
لكن، لو ارتأينا النظر إلى الأشياء بمفهوم آخر، بناءً على تحليل موضوعي لأوضاع الأمة العربية، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية إلى هزيمة 1967، فسنجد أن وجود إسرائيل مرتبط عضوياً بمُخططات القوى الغربية المُنتصرة (فرنسا وبريطانيا) وبعدهما أميركا، منذ وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو ذات الركائز الثلاث، وقد قسمت هذه المشاريع الغربية الإرث العثماني، ووضعت أُسس سيطرتها عليها بشكل دائم.
بعد 1918، انتقلنا من كوننا جزءا من الخلافة العثمانية، أربعمائة عام، إلى فُتات دول عددها 22 حالياً. لم يكن ذلك كافياً للقوى الاستعمارية الغربية، بل أكدت، بالفعل والعمل، على أبدية التجزئة، بفرض حكومات وأنظمة شمولية استبدادية، لا تتحقق مصالحها، إلا من خلال التجزئة، للاستيلاء على ثروات الوطن، والأحداث الأخيرة أظهرت مدى بشاعة هذه السياسة. ولم يرتبط بقاء مثل هذه الأنظمة بإرادة شعبية، أو نتيجة انتخابات حرة، إنما عن طريق طبقة من المستفيدين وجيش مُسيس، تحول إلى مليشيات للدفاع عنها، هدفه الوحيد منع أي حراك ديمقراطي شعبي، مهما كان الثمن، ومثال سورية وليبيا واضح في هذا المجال، وبدعم أجنبي، وهي سابقة يجري تكرارها مرة أخرى، وإن في شكل مضمر. ولم تكتف الدول الاستعمارية بذلك، بل أكدت على وُجوب وُجود دولة إسرائيل، لتكون الركيزة الثالثة لاتفاقية سايكس بيكو. فالمراقب لأحداث هذه الأيام يرى الدعم الواضح من الحكومات الإسرائيلية لأنظمة عربية، مثل نظام حُسني مبارك في مصر، وبعده النظام العسكري الحالي، حيث إن بقاء إسرائيل والحفاظ على أمنها واضح للقاصي والداني، في ارتباطه بوضع التجزئة والاستبداد.
هذا الثلاثي (التجزئة والاستبداد وإسرائيل) كان السمة الأساس لواقعنا، أكثر من ستين عاماً، ولفرط طول الزمن، تعودنا على رؤية هذا الواقع، إلا أنه، بالمفهوم التاريخي وحياة الشعوب التي تُقاس بمئات السنين (احتلال الجزائر 132 عاماً، الحروب الصليبية على مدى قرنين)، ليس هو الواقع الطبيعي لمنطقتنا، فنحن، منذ أكثر من عشرة قرون، شكلنا جزءاً، أو كلاً، من الإمبراطوريات التي كانت مركز الحضارة، كالأمويين والعباسيين والفاطميين والمماليك والعثمانيين. كنا دوماً أمة واحدة، يكبر حجمها أو يصغر، لكنها مبنية على مبدأ المركز المُهيمن (بغداد، دمشق، القاهرة أو إسطنبول)، تدور حولها ملايين الأيدي العاملة المُنتجة للحضارة، عرباً أو عجماً.
خطأ الزعيم جمال عبد الناصر ليس تبنّيه المفاهيم القومية، وإنما قبوله بإحدى قواعد "سايكس بيكو"، وهي الابتعاد عن الديمقراطية، فمهما كانت سياسته ذات دوافع وطنية قومية، وليس شخصية أو عائلية؛ وهذه حقيقة نعترف بها له، فإنه لم يستطع أن يُقيم دولة المؤسسات، واعتبار الشعب مصدر السلطة، بدل الشرعية العسكرية أو الثورية، كان هذا الوضع السائد في العالم الثالث عامة، وهو عكس الاختيار الذي تبناه الرئيس نيلسون مانديلا في أفريقيا الجنوبية، وأدّى إلى نجاح مشروعه التحرري.
انخرطت المُنظمات الفلسطينية، ومفكرون أيضاً، بغير وعي منهم، في مشروع "سايكس بيكو"، حينما انطلقوا من الخطأ الآخر، أي قبول التجزئة العربية وتأكيدها، بادعاء ملكية الشعب الفلسطيني ومسؤوليته وحده قضيته، وكان لهذه السياسة، طبعاً، مُسبباتها، مثل هزيمة 67 ثم مجازر أيلول الأسود، لكن ذلك لا يعني أنها سياسة صائبة، لأن النتائج التي وصلنا إليها دليل هذا الخطأ.
وصول العالم إلى حقيقة وجود شعبٍ فلسطيني، طُرد من أرضه، وله الحق الكامل بالعودة إليها، تطور إلى مفهوم وحدانية الشعب الفلسطيني في العمل لهذا الهدف، مُترجماً بشعار "عدم قبول تدخل الدول العربية في شؤوننا"، و"عدم تدخلنا في شؤونها". مرة أخرى، تفهم هذه السياسات في ظروفها وزمانها، خصوصاً عندما نرى الهجمة الشرسة التي شنها، مثلاً، النظام السوري في أثناء هيمنته على لبنان، أو تآمر أنظمة أخرى على النضال الفلسطيني.
ليست المشكلة فلسطينية أو مصرية، أو من هذه الدولة أو تلك، المشكلة أننا، فلسطينيين ومصريين وعرباً، انطلقنا، في تعاملنا مع أنفسنا ومع الآخر، من منطلق انتماءاتنا القطرية، التجزئة المفروضة أصبحت واقعاً ليس فقط للأنظمة التي لا يمكن أن توجد بغيره، وإنما لكل قوى المُعارضة العربية، حتى الأحزاب ذات البُعد القومي، أو الإسلامي، انقسمت على نفسها، بدل أن توحد دولها (مثل حزب البعث، أو أخيراً الإخوان المسلمين).
أطرح مفهوم عدم إمكانية نجاح أي مشروع وطني، إذا انطلقنا من مُعطيات "سايكس بيكو"، فمن غير المعقول أن نبني الوحدة، أو نهزم إسرائيل، من منطلق قبول تجزئة النضال. فالعودة إلى وضع الأمة الطبيعي، أي ما قبل "سايكس بيكو"، وبناء حراك عربي يتنافى مع هذه المُعطيات؛ هو ما سيكون وسيلتنا لنصل إلى أهدافنا. فمنطلق العمل يجب أن يكون بمفهوم الأمة الذي يتنافى مع التجزئة، وأن يكون بمفهوم الديمقراطية والشعب مصدر السلطة الذي ينفي مفهوم الاستبداد. كما أن العمل من منطلق وحدوي، وبأطر ديمقراطية مُتحضرة؛ هو الذي سيكون كفيلاً بهزيمة "سايكس بيكو"، وركيزته الثالثة (إسرائيل)، فلن ننتصر بجيش من العبيد. ومن الخطأ أن نبني أعمالنا لتغيير أوضاعنا من الأطر التي وضعتها لنا القوى المُنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ولصالحها فقط، وهي أطر موجودة، أصلاً، لإجهاض أي عمل لصالح الأمة واستقلاليتها وازدهارها، الانطلاق منه يصبح كالجري وراء السراب.
كان "الربيع العربي" قد بدأ يهُز أول ركيزة لوعاء "سايكس بيكو"، أي الاستبداد، وهو الذي كان يعوّل على نجاحه أنه سيؤدي إلى سقوط الإناء، وإزالة الركيزتين الأخريين، لكن المشوار ما زال طويلاً لتحقيق هذا الهدف السامي. وفهم الصهيونية هذا الواقع، وهذا الخطر المُقبل نحوها من "الربيع العربي"، هو ما يُفسر المواقف الإسرائيلية بالتعامل مع بعض دول هذا "الربيع"، مصر وسورية، وما يُفسر تخاذل الغرب في دعم النضال الديمقراطي تحت تأثير اللوبي الصهيوني، حتى ولو تعارض مع مصالحه. لهذا، لن يستطيع الشعب الفلسطيني وحده أن يُحرر فلسطين، ويُقيم دولته السيادية على أرضها، ويحترم المعايير الإنسانية الحضارية. من الممكن هزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين، إن انطلقنا من قوة الأمة وإمكاناتها الهائلة، يجب أن نكون جزءاً من كل الأمة.
العمل الدؤوب لإقامة أنظمة ديمقراطية هو الذي سيُغير معادلة التعامل مع الغرب، المبنية حالياً على مبدأ مصلحة الغرب في مُقابل مصلحة بقاء الأنظمة وتوريثها، إلى مصلحة الغرب مُقابل مصلحة الأمة العربية، وخصوصاً حقوق الشعب الفلسطيني. في هده المعادلة الجديدة، وبدون حروب، تُغير أميركا والدول الغربية سياساتها لصالح حقوقنا، وتصبح إسرائيل مُعوِّقاً أمام هذه الدول، للحصول على حصتها من التعاون الاقتصادي المُربح مع الأمة. الفعل، إذن، يجب أن يكون منا وفينا، وكذلك التحليل والنقد يجب أن ينطلق من واقعنا، وحين نغيّره بأيدينا يتغير الآخرون. وعلى قوى الأمة الجديدة، على الرغم من ضعفها، أن يروا هذا البُعد التاريخي للنضال، والعودة إلى مسارنا الطبيعي الذي أخرجنا منه السيدين سايكس وبيكو.