الحياة من الجهة الأخرى

10 مارس 2014
+ الخط -

قد يكون رياض الصالح الحسين هو الأوفر حظاً في جيل "السبعينيات" من القرن الفائت. فقد أكمل شعراء هذا الجيل ما بدأه "جيل الرواد": مقولات وأشكالاً، إنما على نحو باهت، وأضافوا ما سمي بالشعر التحريضي وشعر الواجب وغيره.

وثمة شعراء من بينهم اتخذوا الاتجاه المعاكس لشعر الحداثة، وانتبهوا لليومي و"الصغير" حسب تعبير غرامشي، فغرقوا في الكلام والحكي الذي لا يفضي، وحوّلوا القصيدة إلى بؤرة لا شيء فيها سوى تفاصيل متراكمة لا تقول شيئاً ولا تكتشف شيئاً، ووقعوا في فخ البساطة التي حولت قصائدهم إلى كلام خال من أية حالة فنية أو شعرية، وذلك باسم الاقتراب من لغة الناس؛ فضاع، إلى حد كبير، الخط الفاصل بين البساطة والسطحية. وقد كان لهؤلاء أثر واضح، فيما بعد، في إسباغ صفة الشعر على كل كلام لا شعرية فيه، وكان من آثاره أن سالت وساحت قصيدة النثر، وغدت صعوبة كتابتها التي أكدها صانعوها ومنظّروها شيئاً لا معنى له، إذ بدا أن كتابة قصيدة نثر على شاكلة شعراء اليومي السبعينيين أمر متاح.

كان رياض الصالح الحسين أكثرهم انتباهاً لعدم وقوع القصيدة في أفخاخ الثرثرة، ولعدم انسياحها واندياحها وترهلها. فقد حقق تلك المعادلة العسيرة: الشعر بوصفه لغة لا تستسلم لتاريخية اللفظة وتداوليتها من جانب، والشعر بوصفه قابلاً للتحقق عبر لغة هي لغة الناس في شؤونهم اليومية من جانب آخر. إنها معادلة وعرة أسّسها شعراء قصيدة النثر ذات الهم اليومي والمنغمسة في شؤون بعيدة عن تلك التي نظّر لها شعراء الحداثة، المتمثلة في النظر إلى الإنسان بوصفه سوبر ـ إنسان، وإلى الشاعر بوصفه نبياً أو إلهاً، وإلى الحياة بوصفها غير مرئية وتقع هناك، ما وراء اللغة والطبيعة والأشياء.. نظّروا إلى القصيدة بوصفها رؤيا تنطوي على/ وتتضمن كل شيء.

على النقيض من ذلك، بزغت قصيدة النثر على أنها قصيدة الحياة هنا ـ الآن، وبزغ الشاعر بوصفه إنساناً هشاً، متخفّياً، يقول وجهة نظره، ليس بالحياة برمتها، بل بأشيائها المتروكة والمهملة. لم ترَ الإنسان القادر، بل الإنسان المسحوق، المسحول بأعباء التاريخ والراهن، ونظرت إلى الحياة من الجهة الأخرى. وقد كان محمد الماغوط، ربما، هو الأكثر سطوعاً وفاعلية من حيث أنه حقق، بل وضع أسس تلك المعادلة السحرية التي تجمع وتمزج بين لغة الناس وأشيائهم الأثيرة وبين لغة الشعر. بل إنه جعل من لغة الناس هذه لغة الشعر.

رياض الصالح الحسين وجد تلك الأرض ممهّدة إلى حد كبير، واستطاع حل رموز تلك المعادلة. ونظراً إلى قوة شعريته، لم ينطق بصوت الماغوط المتبرم والساخط والصاخب، بل بصوته الخفيض منسجماً مع صورة الشاعر والإنسان "الصغير". وقد استمر، إلى الآن، هذا الهمس اللغوي في قصيدة النثر المواظبة، بلا هوادة، على الظهور.
"انظروا إليه/ انظروا إليه فقط/ لقد تفسّخ جسده/ منذ زمن بعيد/ وما زال يحمل راية الحرية". بهذه البساطة يكتب الشاعر، وفي الوقت ذاته، بهذا الانضباط. هذه لغة الناس، فلا بلاغة ولا تقعّر، وهذه أيضاً لغة الشعر، فلا ثرثرة، ولا كلام لا يفضي، ولا غرق في التفاصيل. كما لا حضور للشاعر الشخص على حساب حضور النص. كأنه قال ما يريد وغادر.

هنا يقف رياض الصالح الحسين، على مسافة بعيدة من أقرانه شعراء الشفوية في السبعينيات الذين لم ينفكوا يوالون حضورهم الشخصي في القصيدة على حساب الحضور النصي، فيتكلمون، ويتكلمون، ويتكلمون، إلا أنهم، غالباً، لا يقولون شيئاً.
خلال حياته القصيرة (28 عاماً) وعبر أربعة كتب شعرية، قال رياض الصالح الحسين الكثير، على مستوى الشكل كما على مستوى القول.

 

المساهمون