الحكومة اليمنية ومهمة السير مقلوباً
تشكلت الحكومة اليمنية، أخيراً، وبعد أكثر من شهر ونصف شهر من سقوط صنعاء، واستقالة، أو إقالة، الحكومة السابقة بقوة السلاح. وأمام واقع جديد وغريب يشهده اليمن، بعد انهيار الدولة وتهاوي الجيش وسقوط عاصمة الدولة بيد ميليشيا، صارت كل مشكلة النخبة السياسية اليمنية كيف تشكل الحكومة، وليس كيف يستعاد حضور الدولة. هذا التفكير المختل مفهوم لدى نخبة كهذه، لكن الجميع جاروا هذا المسار المختل، بمن فيهم الأمم المتحدة والدول العشر الراعية للمبادرة، وكذا الإعلام الداخلي والخارجي الذي انشغل طويلاً بمنصب رئيس الوزراء وشكل الحكومة المقبلة.
عندما أسقط الحوثي العاصمة صنعاء، فإنه، عملياً، أسقط العملية السياسية بالكامل، وقام بتجريف كل إمكانية للعمل السياسي والمدني، عندما اتجه إلى قوة السلاح، في وقت لم تنقطع فيه سبل العمل السياسي، وكان قد توصل، بالفعل، إلى ما يريده، وهو اتفاق السلم والشراكة قبل إسقاط العاصمة. حينها، لو توقف الحوثي عن سلوكه الجامح، والمرتهن بإرادات خارجية، لكان أعطى لنفسه، وللآخرين، فرصة العمل السياسي ضمن إطار الدولة، لكن ما حدث هو فرض للخيار المسلح الخارج عن الدولة. وبالتالي، كان الاتفاق إضفاء شرعية لواقع غير شرعي، وانتحاراً سياسياً للحوثي، وباقي القوى السياسية التي وقعت اتفاقاً يصوغ عملية سياسية على أسس واهية.
اتفاق السلم والشراكة قبل إسقاط صنعاء كان ممكناً التعامل معه، كاتفاق سياسي جديد، يمكن تطبيقه، والعمل في إطاره بما فيه من عورات. لكن اليوم بعد إسقاطها فهو بمثابة وضع العربة قبل الحصان، أي التفكير باستحقاقات سياسية، مثل تشكيل الحكومة ونسيان حقيقة أهم، وهي سقوط مؤسسات الدولة بيد ميليشيا، وكيف لحكومة أن تعمل ضمن دولةٍ، لا حضور لها على الأرض.
الوضع الطبيعي، في هذه الحالة، واحد من اثنين، إما أن الحوثي الذي أسقط العاصمة بحجة الثورة على الفساد يتحمل مسؤولية السلطة، وبهذا، يكون، كفاعل حقيقي على الأرض بقوة السلاح، من يتحمل مسؤولية السلطة أمام الناس. هذا الخيار الأول رفضه الحوثي، على الرغم من ادعائه ثورة المؤسسات واستيلائه على أختام وزارات الدولة، بحجة الثورة على الفساد، على الرغم من أنه كان، ببساطة، يمكنه فعل هذا كله بتولي الحكومة المتاحة أمامه، من دون عائق. أو الخيار الثاني، وهو رفض الأحزاب إسقاط صنعاء، ومقاومة هذا الخيار الذي فرضه الحوثي بسلاحه.
الحوثي هو استمرار للمأزق اليمني السابق، لكن بقدر أكبر من الفجاجة والسوء، فالمأزق اليمني يتسبب به التفاوت بين القوة الحقيقية على الأرض والقوة المسؤولة في السلطة، بين القوة اللاشرعية الحاكمة بمنطق الأمر الواقع والقوة الشرعية لمؤسسات الدولة، وكانت الأمور تسير دوماً لصالح القوى الخفية ضد الدولة. وعلى سبيل المثال، كان الجنرال علي محسن والشيخ عبد المجيد الزنداني يمثلان قوة عسكرية – دينية، تفرض خياراتها على الدولة، وتمارس نفوذها في الحكومة من دون مساءلة، فنفوذ علي محسن كان يتعدى وحداته العسكرية، وكذلك الزنداني يتعدى عمله الحزبي والسياسي، لأنهما، ببساطة، يرتكزان ليس على قوة مناصبهما ضمن الدولة، أو أدوارهما ضمن العملية السياسية الشرعية، بل على قوة جماعات دينية مسلحة، تابعة لهما، وخارجة عن الدولة.
كان نجل الرئيس السابق، أحمد علي صالح، وأبناء عمه، وكذلك الشيخ حميد الأحمر وإخوانه، يفعلون الشيء نفسه بحكم القرابة، أو العلاقة القبلية بالرئيس، إضافة إلى القوة الاقتصادية التي صارت تابعة لهما، بحكم تدخلهما بكل المشاريع التجارية في البلاد، وتملكهما بعضها. ثم تطور الحال في عهد الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي صار نجله جلال حاكماً فعلياً لليمن، من دون أي صفة رسمية، سوى أنه نجل رئيس جمهورية.
هذه قوة حقيقية فاعلة على الأرض، تأمر وتنهى، وتمارس أدوارها الفاسدة، لكن، لا يستطيع مجلس نواب مساءلتها، لأنها ليست في السلطة، ولا تتحمل مسؤولية أمام شعب، أو إعلام، بعكس الحكومة التي يتولاها وزراء، سلطاتهم محدودة بحدود قدرات الدولة الضعيفة، وفاعليتها المحدودة على العاصمة ومراكز المحافظات، وقد يضطر وزير المالية، مثلاً، إلى تسيير طلبات صرف مالية لعلي محسن، أو أحمد علي، أو غيرهما، بينما يوقف أخرى لضرورات ملحة لبرنامج خدمي خاص بوزارة الصحة، أو التعليم، لأنه لا توجد أموال في الخزينة، وهذه كلمة لا يمكنه أن يقولها في حضرة ما صارت تعرف بمراكز القوى في اليمن، وهذه تمثل أصحاب سلطة الظل، وهم الفاعلون الحقيقيون على الأرض، بحكم القرابة والنسب، أو المال أو السلاح، وفي الغالب، بحكم هذه جميعاً، لكنهم لا يتحملون مسؤولية سلطة، ومعفيون من المحاسبة، لأنهم، ببساطة، قوة غير مرئية خارج القانون.
أزاح الحوثي، اليوم، بعض هذه المراكز، مثل علي محسن والزنداني وحميد الأحمر وأخوانه ليحل محلهم، وهذه المرة، على دولةٍ، لم تعد تملك أي قوة، حتى داخل العاصمة. الحوثي اليوم القوة المسلحة على الأرض التي لن تستطيع الحكومة فعل شيء يخالف إرادته ورغباته، لكنه، مرة أخرى، بلا مسؤولية، ومن يحكم بلا مسؤولية فاسد ومفسد بالضرورة، لأنه يعطل حكم الدولة، ويعمل خارج القانون والشرعية.
كان هناك خيار آخر أمام الأحزاب اليمنية والرئيس هادي، وهو رفض توقيع اتفاق السلم والشراكة، قبل خروج الحوثي من العاصمة، أو تشكيل حكومة مقاومة، وهذه تعني حكومة سياسية، وليس حكومة تكنوقراط، كالتي أعلن عنها. فحكومة تكنوقراط تنجح في الدول ذات المؤسسات المستقرة، لتطبيق برامج اقتصادية، تحسن مستوى المعيشة والخدمات. وفي اليمن، ليست هذه الحكومة مطالبة، كسابقاتها، بوقف التدهور الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة وتوفير الخدمات ومواجهة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، بل مطالبة بمهمة سياسية جسيمة، وهي استعادة حضور الدولة التي صارت ميليشيا، تتحكم بشوارعها، وتقوم بمهامها. ومهمة استعادة حضور الدولة سياسية بامتياز، لأنها تتطلب قرارات سياسية كبيرة، سوف تؤدي إلى مواجهة سياسية ضد الحوثي، المعجب بدوره حاكماً على أرض الواقع، من دون مسؤولية، وسوف لن يتوقف عن الاعتداء على مؤسسات الدولة، والتدخل بعملها، بحجة الثورة ضد الفساد، ما سوف يعطيه سطوة هائلة على الحكومة الحالية، والتي لن تجد أمامها سوى خيارين، الخضوع للحوثي وأوامره لكي تبقى، أو الممانعة فتضطر للاستقالة أو الإقالة. وبالطبع، خيار مقاومة الحوثي غير وارد في حكومة تكنوقراط، لا تتحمل مسؤوليتها أحزاب وقوى سياسية، تستطيع مساندة قراراتها السياسية المهمة، والمطلوبة لاستعادة الدولة، وشكلها رئيس جمهورية عزله حزبه، والكل يعلم أن حدود سلطته لا تتجاوز أسوار منزله.
الإخفاق السياسي في اليمن ممتد، وبلا معالجة، بسبب معضلة التفاوت الواسع بين قوى الأمر الواقع، بسلطتها اللامحدودة بدون مسؤولية، ومؤسسات الدولة، بسلطتها المحدودة مع كامل المسؤولية، هذه المرة، سوف يتزايد حجم الإخفاق، لأننا أمام دولة بلا أي سلطة، وقوة أمر واقع غير شرعية، تتحكم وتتسلط، متعففة عن السلطة وتحمل المسؤولية. الوضع الحالي هو استمرار لإضفاء شرعية لوضع غير شرعي، لكنه، كغيره من خطوات سابقة، لن ينجح، وسوف يزيد من تأزيم الوضع، لأنه لا يمكن لأي اتفاق سياسي النجاح، طالما فرضه سلاح غير سلاح الدولة، ولا يمكن لحكومة أن تعمل من دون دولة، وتمشي مقلوبة على رأسها، وليس على قدميها التي لا أرض تحتها، وهي الدولة.