أثار مقترح دفعت به "الحركة الشعبية - قطاع الشمال" بمنح منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان السودانيتين حكماً ذاتياً، جدلاً واسعاً داخل الأوساط السودانية، وأحدث انقساماً واسعاً بين مؤيد ومعارض، وخصوصاً أن الأطراف وضعت نصب أعينها تجربة دولة جنوب السودان، التي مُنحت حكماً ذاتياً وفقاً لاتفاقية "نيفاشا" مقروناً بتقرير مصير، قاد في النهاية إلى انفصال الجنوب.
الحركة أثارت المقترح عند نهاية الجولة التفاوضية السابعة بينها والحكومة السودانية، والتي انتهت أخيراً من دون التوصل إلى تفاهمات تنهي الحرب الأهلية المشتعلة في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان منذ ما يقارب الثلاثة أعوام.
والمراقب لطرح "الحركة الشعبية" يجد أنه ليس بجديد، إذ سبق وأن عبّر عنه رئيس الحركة، مالك عقار، في أبريل/نيسان 2011 إبان توليه رئاسة حكومة ولاية النيل الأزرق، أي قبل اندلاع الحرب، باعتباره حقاً دستورياً وقانونياً لولايته وكافة ولايات السودان.
ووقتها أيضاً أثار الطرح جدلاً كبيراً، وردّ النظام في الخرطوم مؤكداً رفضه القاطع هذه الخطوة، ومنتقداً عقار، مما دفع الأخير لإصدار بيان صحافي مدافعاً عن سلامة طرحه، إذ أشار في البيان إلى المواد المنصوص عليها في الدستور واتفاقية السلام الشامل "نيفاشا"، والتي أوردت في الجزء الأول "المبادئ العامة" في إحدى فقراتها "الإقرار بسيادة الأُمَّة المجسدة لشعبها وبالحاجة إلى الحكم الذاتي لحكومة جنوب السودان والولايات في جميع أنحاء السودان"، بينما أورد الدستور فقرة كاملة تتحدث عن ضرورة الاعتراف بذاتية حكومة جنوب السودان والولايات، ومراعاة ذلك عند توزيع السلطات بين كافة مستويات الحكم.
كما أوردت الممثلة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة في جنوب السودان، هيلدا جونسون، والتي لعبت دوراً في اتفاقية "نيفاشا"، معلومات تفصيلية في كتابها، الذي أصدرته أخيراً بعنوان "تحقيق السلام في السودان: السيرة الخفية للتفاوض الذي أنهى أطول حرب في أفريقيا"، وأكدت فيه أن ضغوطاً كبيرة جداً مورست بواسطة الوسطاء ومن خلفهم المجتمع الدولي على زعيم "الحركة الشعبية" الراحل، جون قرنق، وزعيمي الحركة الحاليين، عبدالعزيز الحلو ومالك عقار، من أجل التنازل عن مواقفهم الأساسية حول المنطقتين، بعدما طالبوا بأن تُعامَل المنطقتان أسوة بجنوب السودان.
واعترفت في الكتاب بوقوع المجتمع الدولي في خطأ تاريخي، يصل إلى درجة خيانة قضايا المنطقتين جراء تلك الضغوط.
هذا الأمر يؤكد أن طرح الحكم الذاتي كان موجوداً حتى أيام المفاوضات بين الحكومة و"الحركة الشعبية"، بزعامة قرنق، التي انطلقت بشكل رسمي مطلع الألفية الحالية، ولا سيما أن المنطقتين تُعتبران من المناطق المهمشة في السودان، والتي لم تعرف سلاماً دائماً طيلة اندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان والتي استمرت لما يقرب من ربع قرن.
وبرر الأمين العام للحركة، ياسر عرمان، في لقاء صحافي، المطالبة بالحكم الذاتي، باحتضان المنطقتين غالبية المسيحيين في السودان، إضافة إلى خصوصيتهما الثقافية.
واعتبر عرمان أن رفض المقترح سيكرر السيناريو، الذي حصل في جنوب السودان، باعتبار أن التباطؤ في الاستجابة لمقترح الحكم الذاتي قبيل استقلال السودان في عام 1956 وإجهاض اتفاقية أديس أبابا، التي وُقّعت مع الفرقاء الجنوبيين عام 1972، والتي أقرت الحكم الذاتي للجنوب، قاد لتطوّر المطلب إلى حق تقرير المصير والوصول في النهاية إلى انفصال الجنوب.
والحكم الذاتي عبارة عن نظام سياسي وإداري واقتصادي يحصل فيه إقليم، أو أقاليم من دولة ما، على صلاحيات واسعة لتدبير شؤونها بما في ذلك انتخاب الحاكم والتمثيل في مجلس منتخب يضمن مصالح الأقاليم على قدم المساواة. وهو نقيض المركزية إذ تحتاج الدول التي تمارسه إلى أن تتخلى عن جزء مهم من صلاحيات تدبير الأقاليم اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً لتتم ممارسته على المستوى المحلي.
ويرى مؤيدو مطلب "الحركة الشعبية" في الحكم الذاتي أن الخطوة من شأنها أن تُجنّب المنطقتين التوجّه نحو المطالبة بتقرير المصير، وينظرون إليها كمعالجة وحيدة للأخطاء التي ارتُكبت بحق المنطقتين، ولا سيما أنها ستتم في إطار السودان الموحّد، ويعتبرونها صمام أمان لعدم تفتيت البلاد.
لكنّ رافضي الفكرة يرون في الخطوة تكراراً للسيناريو الجنوبي ومحاولة لتفتيت البلاد. ومن هؤلاء، والي ولاية النيل الأزرق، حسين ياسين حامد، الذي رفض مقترح الحركة، وقال في تصريح لـ"وكالة الأنباء الرسمية" إن "الولاية، شأنها شأن ولايات السودان المختلفة، عليها واجبات باعتبارها إحدى الولايات التي ترتضي نظام الحكم الموجود والمتّبع من الدولة وفق دستور البلاد وترفض تماماً دعوة الحكم الذاتي".
ويقول المحلل السياسي، ماهر أبو الجوخ، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الدول تلجأ عادة إلى الحكم الذاتي لإزالة الظلم، وطالما أن الحكومة أقرت أن هناك ظلماً واقعاً على المنطقتين وأن فيهما إشكالات تختلف عن بقية المناطق في السودان، فإن عليها أن تميّزهما.
ويشير الى أن "الحكم الذاتي أحد أدوات التمييز"، مؤكداً انتفاء المقارنة بين مطلب الحركة في الحكم الذاتي للولايتين وما حصل في جنوب السودان من انفصال، باعتبار أن طرح الحركة لم يتحدث عن تقرير مصير.
ويوضح أبو الجوخ "أن الحكم الذاتي كان يمكن أن تصل إليه الحركة عبر المشورة الشعبية، التي أقرتها اتفاقية نيفاشا ولم تكتمل فصولها بسبب اندلاع الحرب في المنطقتين"، مؤكداً أن خطوة الحكم الذاتي من شأنها أن تكون حلاً للحرب عبر منح الحكومة السودانية المنطقتين سلطات تسمح لهما بإدارة شؤونهما ضمن السياسة العامة للبلاد.
ويشير أبو الجوخ، في المقابل، إلى أن رفض الحكومة مجرد مناقشة المقترح، قد يؤدي إلى إيجاد رأي إقليمي ودولي يساند المقترح بشكل أوسع، لا سيما إذا تصاعدت الأزمة الإنسانية في المنطقتين، جراء مراهنة الحكومة على حسم الأمر عبر الحرب، مضيفاً "أن تعطي وتأخذ في أمر ما، أفضل من أن يُفرض عليك".