العلاقة عبر الأطلسي في عهد ترامب... الأوروبيون في مواجهة "أميركا أولاً" ومصالح الصناعات العسكرية الأميركية
استمع إلى الملخص
- الحرب في أوكرانيا دفعت بعض الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها العسكري، بينما يطالب ترامب بزيادة شراء الأسلحة الأميركية، مما يثير نقاشات حول الاستقلالية الأوروبية في التصنيع العسكري.
- يخشى الأوروبيون من تراجع دعم ترامب لأوكرانيا، مما قد يؤدي إلى انقسام أوروبي حول التعامل مع روسيا ويضع أوروبا أمام تحديات جديدة.
بانتقال البيت الأبيض إلى الرئيس الجديد - القديم دونالد ترامب فإن مستقبل العلاقة الأوروبية-الأميركية سيكون على موعد مع تحديات جديدة - قديمة. العلاقة عبر حلف شمال الأطلسي "الناتو" شهدت مطبات في فترة حكم ترامب السابقة، ليس لناحية مطالبة دول الناتو، الوصول إلى تخصيص 2% من الناتج الإجمالي المحلي على موازنات الدفاع فحسب، بل لناحية توازن مصالح طرفي التحالف الاقتصادية - التجارية أيضاً.
صحيح أن الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022 قرب الحليفين من بعضهما على أرضية دعم أوكرانيا ضد روسيا، إلا أن عودة ترامب، بما يحمله من مواقف يعززها اختيار أركان إدارته، تعيد رسم التحديات المتوقعة بعد يناير/كانون الثاني القادم حتى عام 2029.
اختيار ترامب القديم - الجديد بعقلية "أميركا أولاً" لوزير دفاع متشدد مثل بيت هيغسيث يقلق بعض القارة الأوروبية، ليس بسبب وشوم جسده، بل لتوجهاته ومعتقداته. هيغيسث ليس أقل توجساً وتشكيكاً من رئيسه في جدوى الحلف الأطلسي والتعهدات الأميركية في الدفاع عن القارة العجوز. يعرفه الأوروبيون حين تساءل عن جدوى استماع أميركا لأوروبا "التي تضم دولاً عاجزة تطالبنا باحترام الترتيبات الدفاعية التي عفا عليها الزمن، والتي لم تعد ترقى إلى مستوى هذه الترتيبات". إذاً، بقدر ما رُبطت مطبات العلاقة الأميركية - الأوروبية بترامب بين 2017 و2021 فإنها تتحول إلى تحديات جدية في التقاء "ترامبيي" إدارته على أرضية "أميركا أولاً" وشعار شعبوي عن إعادة العظمة لأميركا.
المزيد من تحديات العلاقة عبر الأطلسي
على الرغم من رغبة أغلب الأوروبيين الحفاظ على علاقة تحالف مع واشنطن، إلا أنها علاقة تواجه تحدياً جدياً. ترامب لم يتغير عن2017 و2018 حين بث الذعر بين دول القارة العجوز بشأن التزام بلاده بتعهدات الدفاع عن أوروبا تحت مظلة الحلف الأطلسي. أمر استدعى آنذاك المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل إلى قرع أجراس الإنذار وبضرورة تعود القارة على تقليع شوكها بنفسها، كما فعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ويبدو أن ترامب، المقايض، لن يكون أقل اشتراطاً على الأوروبيين للإنفاق أكثر على اقتصادات الدفاع والأمن في قارتهم، ربما أكثر من 2%.
وللمفارقة، فقد شكلت الحرب في أوكرانيا، التي يعد الرجل بوضع حد لها، مناسبة لرفع بعض دول القارة من إنفاقها العسكري، كما في دول البلطيق واسكندنافيا. حيث تحولت الـ2% إلى أرضية وليس سقفاً، ما يفتح الأبواب أمام طرح نسب أعلى. وعملياً ثمة 23 دولة "أطلسية" من أصل 32 أصبحت ملبية لتلك النسبة. وتخصص أميركا 3.38% من الناتج الإجمالي المحلي، بينما تخصص بولندا 4.12%، وإستونيا 3.43%، والدنمارك 2.37، وتبقى دول مثل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا متأخرة عن ذلك.
رغبة ترامب تبدو واضحة للأوروبيين، إذ يريد منهم ضخ أموالهم في شرايين الصناعات العسكرية الأميركية، أو منح شركات بلده بعضاً من كعكة الحاجات الأوروبية للتسلح، بعد أن وجدوا أنفسهم أمام عجز إنتاج محلي للأسلحة والذخيرة، وتزايد اعتمادهم على الحليف الأميركي. فرنسا على سبيل المثال واحدة من الدول المتحمسة لاستقلالية القارة في مجال إنتاج المزيد من الأسلحة.
على تلك الخلفية يخوض بعض الأوروبيين نقاشاً حول الكف عن استرضاء واشنطن، ولأجل التأسيس لتصنيع تسليحي أوروبي مشترك. البعض الآخر، القلِق من روسيا، يبدي استعداداً للذهاب إلى تخصيص 4% من الناتج المحلي إذا طلب ترامب ذلك. نغمة الاستقلالية الأوروبية بالنسبة لترامب تعني وضع عراقيل في وجه جلب الأموال الأوروبية لتحقيق "أميركا أولاً"، وذلك ما يزيد التوتر في علاقة ضفتي الأطلسي.
أوكرانيا... انقسام ومعضلة انسحاب أميركا
تفرض الحرب الأوكرانية نفسها تحدياً مركزياً في علاقة الطرفين الأميركي - الأوروبي. صحيح أن واشنطن، قبل تسليم البيت الأبيض لترامب، سمحت لكييف باستخدام صواريخها القادرة على ضرب العمق الروسي، إلا أن احتمالية اتخاذ ترامب قراراً معاكساً، إلى حد تجميد دعم أوكرانيا بحجة البحث عن السلام، لا تغيب عن طاولات بحث الأوروبيين، ما سيضع الجانبين أمام امتحان عصيب.
فالجانب الأوروبي، المؤثر منه والصغير الخائف، لا يزال ينظر إلى دعم أوكرانيا حالةَ دفاع عن أوروبا بوجه "الأطماع الروسية". والقارة تعرف جيداً أن جهودها بمعزل عن الانخراط الأميركي خلال فترة جو بايدن كانت لتكون جهوداً غير كافية في دعم أوكرانيا. كذلك لا تغيب عن القارة فرضية ذهاب إدارة ترامب إلى فرض اتفاقية سلام على كييف. وذلك قد يسبقه وقف دعم وتمويل الأخيرة، وإجبار الأوروبيين على تحمل تبعات الحرب في قارتهم بأنفسهم، ما قد يخلخل مجدداً الثقة بالأميركيين.
يعرف ترامب وطاقمه بالطبع أن أوروبا تعيش أيضاً على وقع انقسام بشأن انخراط دولهم في الحرب الأوكرانية، وفي فهم روسيا بصفتها خطراً وتحدياً وجودياً. فبينما تراها كذلك دول في شرق وشمال القارة فإن جنوب القارة، وأجنحة قومية متشددة في بعض غربها، لا يرون روسيا بنفس عيون دول البلطيق وبولندا والدنمارك والسويد والنرويج وفنلندا، وغيرها.
ذلك عدا عن وجود ساسة من طراز المجري فيكتور أوربان، يبشرون برفع العقوبات عن روسيا وتقليص دعم أوكرانيا، ثمة قوى سياسية أوروبية لا تقل ترامبية عن ترامب، كما ألمانيا التي تعيش مأزق حكم وتبحث عن مستشار آخر بديل لأولاف شولتز، ودول أوروبية أخرى كبيرة وصغيرة.
إذاً، فإن تخلي إدارة ترامب عن دعم أوكرانيا سيفرض على أوروبا سد الثغرة، وسيكون ذلك ممكناً على المدى القصير، لكن على المديين المتوسط والبعيد سيعزز ذلك من نفور وانقسام أوروبي-أوروبي حول استمرار دعم أوكرانيا. كذلك يشكل ذلك فرصة للقوى الأوروبية الضاغطة للقبول باتفاقية سلام بين أوكرانيا وروسيا، حتى وإن تخلت كييف عن أجزاء من أراضيها.
عموماً، إذا ما ذهب ترامب نحو تطبيق حرفي ومتطرف لشعار أميركا أولاً، أو ما يسميه الأوروبيين سياسة الابتزاز، فإن كثيرين في القارة العجوز يدركون في المقابل أن لديهم أوراقاً في مواجهته. هؤلاء يعرفون مشاغل أميركا العميقة في مواجهة التحدي الصيني. فوزن وثقل أوروبا الاقتصادي - التجاري يعرفه ترامب، الساعي وراء أموالها، وبالتالي فإن الأوروبيين قادرون على إبراز مخالبهم إذا ما أرادت واشنطن اصطفافهم إلى جانبها، حال اندلاع حرب تجارية مع بكين. وربما تكون مخالبهم تسعى أيضاً للمقايضة خلال فترة ترامب القادمة، على أمل ألا تتحول فترته إلى ما يشبه عقيدة حكم أميركي في العقود القادمة.