للحسكة إيقاع خاص بين مدن سورية كافة، لأنها قائمة على التنوّع من جهة، ومن جهة ثانية لأن أول مَن سكنها هم السريان. في باطن أرضها تنام حضارات تبدأ بالعصر المؤابي في الألف السابع قبل الميلاد، مروراً بالآشوريين والآراميين.
كانت الحسكة تمتاز في بداية السبعينيات بأنها مصنع لتخريج الرياضيين المحترفين، وفي وقت من الأوقات كان عدد اللاعبين المحترفين من أبناء الحسكة في الفريق الوطني السوري أربعة، حارس المرمى، جورج مختار، والمهاجمين نبيل نانو وجوزيف عارف (زوزو) ، والمدافع حنا نصري. كان جورج مختار يلعب في نادي الحسكة، ورغم وجود أربعة أندية في المدينة (الحسكة، الخابور، الشباب، الجزيرة)، تتقاسم التأييد بنسب مختلفة، فإن جورج مختار كان محبوب الجميع، وكانت أول مرة في حياتي أشاهد فتيات يخرجن وهن يهتفن باسم نجم رياضي كانت من أجل جورج الذي صد هجمات فريق نادي الفتوّة القادم من دير الزور، المدينة المجاورة والشقيقة الكبرى للحسكة، التي كثيراً ما أعطت نفسها حق هضم حقوق شقيقتها الصغرى.
ما زلت أتذكر في ليلة ماطرة في حلب سنة 1974، دخلت إحدى المقاهي الشعبية في حي الكلاسة، كان الرواد يستمعون إلى نقل إذاعي لنهائي تصفيات البطولة العربية لكرة القدم، وجدت الوجوه مشدودة، فالمباراة انتهت بالتعادل بين فريق سورية وفريق بلد آخر، وكان لا بد من ضربات الجزاء. كان الحمل ملقى على ظهر جورج مختار، الذي أنقذ سورية وجلب لها الكأس، ومنذ ذلك اليوم أصبح بطلاً وطنياً. ورغم أن الرجل وصل الى قمة مجد الكرة، فإنه بقي في الظل، ولم يتعالَ، وكنا نقابله في الشارع فيرد علينا السلام بحياء.
كانت الحسكة تمتاز في بداية السبعينيات بأنها مصنع لتخريج الرياضيين المحترفين، وفي وقت من الأوقات كان عدد اللاعبين المحترفين من أبناء الحسكة في الفريق الوطني السوري أربعة، حارس المرمى، جورج مختار، والمهاجمين نبيل نانو وجوزيف عارف (زوزو) ، والمدافع حنا نصري. كان جورج مختار يلعب في نادي الحسكة، ورغم وجود أربعة أندية في المدينة (الحسكة، الخابور، الشباب، الجزيرة)، تتقاسم التأييد بنسب مختلفة، فإن جورج مختار كان محبوب الجميع، وكانت أول مرة في حياتي أشاهد فتيات يخرجن وهن يهتفن باسم نجم رياضي كانت من أجل جورج الذي صد هجمات فريق نادي الفتوّة القادم من دير الزور، المدينة المجاورة والشقيقة الكبرى للحسكة، التي كثيراً ما أعطت نفسها حق هضم حقوق شقيقتها الصغرى.
ما زلت أتذكر في ليلة ماطرة في حلب سنة 1974، دخلت إحدى المقاهي الشعبية في حي الكلاسة، كان الرواد يستمعون إلى نقل إذاعي لنهائي تصفيات البطولة العربية لكرة القدم، وجدت الوجوه مشدودة، فالمباراة انتهت بالتعادل بين فريق سورية وفريق بلد آخر، وكان لا بد من ضربات الجزاء. كان الحمل ملقى على ظهر جورج مختار، الذي أنقذ سورية وجلب لها الكأس، ومنذ ذلك اليوم أصبح بطلاً وطنياً. ورغم أن الرجل وصل الى قمة مجد الكرة، فإنه بقي في الظل، ولم يتعالَ، وكنا نقابله في الشارع فيرد علينا السلام بحياء.
الثلاثة الباقون كانوا يشبهون جورج ببساطة الجانب الشخصي، زوزو ـ عارف كان خياطاً، وبقي في دكانه، يسجل أهدافاً ذهبية وينال الاعجاب والحمل على الأكتاف، ولكنه لا يتأخر في الغد عن محله الذي يقوم فيه باستقبال الزبائن. وحده نبيل نانو كان دلوعاً، وربما جاء هذا الجانب من خفته كمهاجم لم تعرف الكرة السورية ساحراً مثله، وأشهد أن كل الحركات الذكية التي تقع في منطقة وسط بين الشطارة والخطأ المقصود، شاهدتها في مبارياته قبل أن أجدها لدى مارادونا أو غيره.
في شارع "فردوسة" في الحسكة، تعرفت مع مجموعة من الأصدقاء الشباب، على حلقات النقاش الثقافي والسياسي وحياة الانفتاح الاجتماعي. هي أماكن ليست مفتوحة للعموم، لكنها تستقبل أشخاصاً قلائل موثوقين، لأنها لم تكن مفتوحة للعموم وليست ذات طابع تجاري. هناك جوّ خاص، ولأننا كنا مجموعة مختلطة، المسيحي السرياني، البدوي، الكردي، الاشوري، الأرمني، والشيشاني، كنا نجد استقبالاً خاصاً من أساتذة يكبروننا، في نهاية الأسبوع، ومن بعد نذهب للسير في شارع القامشلي، الذي لم يكن هناك مثيله في مدينة سورية أخرى. هناك تخرج الحسكة كل مساء لتذرع الشارع ذهاباً واياباً مسافة أكثر من كيلومتر. شارع هو عبارة عن "بولفار" يتوقف فيه السير عند الساعة التاسعة مساءً ولا يستأنف إلا في منتصف الليل حين ينفضّ الناس.
نساء وصبايا وعجائز ورجال وشبان ومراهقون، من مختلف الاعمار يتمشون هناك. كانت هناك مجموعة من المقاهي ومحلات بيع المرطبات، ولكن الناس على العموم يقومون بدورة أو دورتين ثم يذهبون بعد ذلك للعشاء في سهرات خاصة أو في المطاعم النهرية على نهر الخابور، مثل بحيرة السمك و"لدى بحود"، وفي مطعم النادي الزراعي... إلخ.
نساء وصبايا وعجائز ورجال وشبان ومراهقون، من مختلف الاعمار يتمشون هناك. كانت هناك مجموعة من المقاهي ومحلات بيع المرطبات، ولكن الناس على العموم يقومون بدورة أو دورتين ثم يذهبون بعد ذلك للعشاء في سهرات خاصة أو في المطاعم النهرية على نهر الخابور، مثل بحيرة السمك و"لدى بحود"، وفي مطعم النادي الزراعي... إلخ.
بقي الشارع حيوياً وضاجاً بالحركة ومكاناً للعشاق والحالمين، ومكاناً لاستعراض آخر صرعات الموضة الآتية من بيروت، إلى حين أخذ يظهر في سورية ما يسمى بالأمن العسكري، وبدأ يتشوّه لدى افتتاح مكتب على إحدى نواصيه، تقف أمام بابه مجموعة من الشباب غير المعروفين من أهل المدينة. لم يكترث أحد لهؤلاء في بداية الأمر، لأن الحياة يجب أن تستمر، حتى حصل حادث معبّر تمثّل في قيام مجموعة من هؤلاء الغرباء باعتقال العديد من الشبان الذين كان معروفاً عنهم ولعهم بالثقافة والجدل حول القضايا الجديدة، ومنها الشأن السياسي، وشاع خبر في اليوم الثاني أن هؤلاء الشباب تعرّضوا للضرب والإهانة، والاكثر من ذلك أن الامن العسكري يراقبهم، من أجل تحديد الشبكة التي يتواصلون معها.
وهنا بدأ يدب أول خوف عام في المدينة عكس نفسه على الشارع وحياته الخاصة والعلاقات البريئة التي كانت تجمع أبناء هذه المدينة. إلى ذلك الحين، لم تكن هناك أسماء معروفة من المدينة تتعاطى العمل السياسي بشكل نافر.
نعم كان هناك أولئك الذين ينتمون لحزب البعث والحكومة، وآخرون ينتمون، خصوصاً، للأحزاب الشيوعية، ولكن المسألة لم تكن "حدية"، ولم تصل حد المواجهة والاعتقالات والتعذيب، ولذا مجرد أن شاع هذا الجو حتى بدأت المدينة تنكفئ على نفسها، وصارت العلاقات تسير في مسارات حذرة، وأضحى كل شخص يحسب حسابه لدى لقاء الآخر، وبدأ أهل البلد بإغلاق النوافذ.
وهنا بدأ يدب أول خوف عام في المدينة عكس نفسه على الشارع وحياته الخاصة والعلاقات البريئة التي كانت تجمع أبناء هذه المدينة. إلى ذلك الحين، لم تكن هناك أسماء معروفة من المدينة تتعاطى العمل السياسي بشكل نافر.
نعم كان هناك أولئك الذين ينتمون لحزب البعث والحكومة، وآخرون ينتمون، خصوصاً، للأحزاب الشيوعية، ولكن المسألة لم تكن "حدية"، ولم تصل حد المواجهة والاعتقالات والتعذيب، ولذا مجرد أن شاع هذا الجو حتى بدأت المدينة تنكفئ على نفسها، وصارت العلاقات تسير في مسارات حذرة، وأضحى كل شخص يحسب حسابه لدى لقاء الآخر، وبدأ أهل البلد بإغلاق النوافذ.