الحرب وتجلياتها الجنسانية

19 أكتوبر 2014

محاربات من حزب العمال الكردستاني شمال العراق (7أكتوبر/2014/Getty)

+ الخط -

يظهر المقاتل الداعشي، وبيده رأس المرأة المقطوع، غارزاً أصابعه في الشعر الذي لم يعد يثير الرعب في نفسه، بعد اليوم، فجسدها الممشوق صار بعيداً، وقد حان الوقت لانتقامه من أسطورة المقاتلات بحدِّ سيفه، يبتسم للصورة رافعاً سبابته نحو الأعلى، ليثبت أنه المحارب المقدس، فتلوح جديلة بلون الشعير وحيدةً، في صورةٍ متوحشة، تعيد إلى رأسك القدر البائس لجان دارك، "عذراء أورليان"، وبطلة حرب المائة عام التي أحرقت الكنيسة جسدها، بتهمة الإلحاد والهرطقة.

المقدّس ينتصر على الأسطورة، والصورة، إن كانت زيتيةً أم ضوئية، تقود إلى رسالة واحدة، فهل من إهانةٍ يوسم الإنكليز بها أكبر من اكتشافهم أن قائد الحملة الفرنسية ضدهم كانت امرأة؟ وهل هناك إهانةٌ أكبر لذكورة مقاتل داعشي، يرى نساءً سافراتٍ كافراتٍ برأيه، يتسببن بإبطاء تقدمه، أو ربما هزيمته، فهل يتقدم لمعركته بالفعل، أم ينتقم لذكورته؟

لا تستطيع الحرب استكمال دورتها، من دون أن تشمل البعد الجنسي، بشكله الجنساني (الجندري)، أو بشكله الشبقي، وقد يكون ما تدعو إليه منظمات حقوق الإنسان لوقف العنف الجنسي في أثناء الحرب، يحمل من الصعوبة ما يجعله ملامساً المستحيل، فلمّا كانت الحرب هي العنف في أعلى تجلياته، فالأكيد أنها لن تجزئ نفسها، ولن تتفادى فعلاً كفيلاً بتغذية دورتها الكاملة.
وإن أغنى العنف الجنسي بشكلٍ من الأشكال الحاجة الشبقية للحرب، فإن الحالة الجنسانية  تجلت وسيلة ترويجٍ، لم تتوان الأداة الإعلامية والدعائية لأي طرفٍ من أطراف النزاع عن استخدامها، لكسب التأييد والمناصرة، سلباً أو إيجاباً، علماً أنها لم تخرج عن الشائع في تنميط المرأة، من خلال فهمٍ عميقٍ لشكل القيم السائدة، أو المقبولة لدى الجمهور المستهدف، بصدد هذا التنميط، كأن يُبرزَ النظام امرأةً أنيقةً بقوامٍ رشيق وصوتٍ رزين، لتدافع عن شرعيته أمام الرأي العام العالمي، في رسالةٍ لا تضطر لذكرها، حتى يفهم المتلقي أنها تعزز صورة النظام الحامي للعلمانية في وجه قوىً تحمل العصبية الدينية، في حين تتراجع قيمة الرسالة العفوية المرجوة من صورةٍ، التقطتها عدسة مواطنٍ صحافي لأمٍ فقيرةٍ ثكلى. أما داعش، ومن حذا حذوها، فقد عملت، كما النظام، على شريحتها المستهدفة، وهم المتشددون، فأظهرت لهم المرأة بشكلها المتخيل المحفور في فكرهم، وهي المرأة المنقبة العفيفة بمنظورهم.

أما الشكل الأحدث للتعاطي مع الوجود النسائي، فقد ظهر في صورة المقاتلات الكرديات، والتي قُدِمت بمنطق ذكورية الحرب التي تحكم بالدهشة على امرأةٍ تحمل السلاح، وتدافع عن أرضها. علماً أن دخول النساء الكرديات معترك النضال المسلح لم يكن وليد الحرب الأخيرة، بل هو شكل متأصل في منهج حزب العمال الكردستاني، كما حصل في جبال قنديل وديرسيم وشيرناخ وغيرها، في العقود المنصرمة (بغض النظر عن الاختلافات في السياق)، إلا أن هذه الصور المتتابعة، والكثيفة، لأولئك النسوة الجميلات، استحضرت لدى بعضهم الذاكرة المرتبطة بالمرأة المناضلة في القرن السابق، بزيها وشكلها المألوفين للأجيال المعاصرة، كتلك النساء الفلسطينيات واللبنانيات والكوبيات والبوليفيات، وغيرهن ممن برزن في مرحلة ظهور حركات التحرر الشعبية في العالم.

وهذا ما جعل القيمة التي انتزعتها المقاتلات الكرديات في التغطية الإعلامية غير موازية لما حظيت به قريناتهن، كنساء داعش (الخنساء) أو نساء النظام (اللبوات). الأولى (أي داعش) اعتادت التعامل مع النساء زاداً شهوانياً، مع استخداماتٍ أخرى لهن، كالعمل في الحسبة لتفتيش نساء أخريات، أو مهمات قتالية شديدة التقييد. وبالتالي، لا يخرجن عن إطار الأداة بشكلها المجرد، سواء لإغناء الحيز الشبقي، أو لتحقيق مكتسباتٍ محددة. كذلك الأمر بالنسبة إلى النظام، وإن كانت الكلية الحربية للنساء موجودةً ضمن المنظومة العسكرية منذ زمن، ويسمح بتدريبهن مقاتلات وتطويعهن للحرب، إلا أن وجودهن بقي في حيز الصورة لا أكثر، أو على بعض الحواجز، للقيام بمهام تفتيش أو مخبرات، حيث لم ترد حوادث تُذكر عن وجود نساء يقاتلن إلى صف النظام بالفعل على الجبهات.

اقتحام النساء الكرديات الحرب الموسومة بالذكورية بالشكل الذي نراه، اليوم، لا يمنح المعركة صفة الأنوثة، بل يحمل اتجاهين، وإن اختلفا في التوجه، إلا أنهما يرتبطان في البعد، فبالنسبة إلى العدو (وهنا داعش) وإن بدا من المرعب ظاهرياً له ربط صمود المدينة بوجود المقاتلات على الجبهات (كما يروّج)، إلا أن الدافع غدا كبيراً لدفع مذلة الهزيمة أمام نساءٍ لسن إلا غنائم انتصاره المرجو، هذا الانتصار الذي سيهزم المقاتل الكردي مرتين، مرةً إن كان أقل شجاعة من (أنثاه)، ومرةً إن غدت هذه الأنثى غنيمةً لعدوه. 

وفي النهاية، ليست وقائع اليوم أسطورةً نمدح أبطالها أو نهجوهم، إنما هي ردح على واقعٍ دفع إنسان إلى حمل السلاح، وحزناً على خزي إنسانيةٍ ما تركت لهم سبيلاً للحياة سوى القتال، ولا يمكن لي أن أرى بازدياد عدد النسوة المقاتلات انتصاراً على الصعيد الجندري، فلست أتمنى رؤية نساء ذاهباتٍ إلى الحرب، بل أتمنى عودة الرجال جميعاً منها.

1BDE802E-65A7-417A-8ABE-A50E89F5A737
رند صبّاغ

كاتبة صحفية سورية، وباحثة في شؤون "الإعلام في النزاعات"