13 نوفمبر 2024
الحرب ضد الوهابية
يكشف تصريح ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لصحيفة واشنطن بوست، أن بلاده "استثمرت" في نشر الوهابية بطلب من الغرب لوقف المد الشيوعي أيام الاتحاد السوفييتي خلال فترة الحرب الباردة، يكشف عن أكثر من حقيقة: الأولى، أن السعودية التي مولت حكوماتها المتعاقبة مدارس ومساجد نشر هذا الفكر الوهابي تتحمل مسؤولية كبيرة في نشر ما حمله من تطرّف خرّب عقول ملايين الشباب المسلم، وكان وراء مآسٍ كثيرة ما زالت مستمرة، وبسببها أُزهقت الآلاف من الأرواح البريئة في أكثر من بقعة من العالم. والثانية، أن السعودية تتحمل المسؤولية المعنوية في تشويه صورة الإسلام الذي حوله الفكر الوهابي السعودي المتطرّف إلى "دين إرهاب"، لا يعترف بالآخر الذي لا يخضع له. وثالثا، تكشف تصريحات بن سلمان عن إعلانه حربا مفتوحة مع الإيديولوجيا التي تأسست عليها شرعية مُلك آل سعود، وهو كمن يطلق النار على إحدى رجليه، فإلى أي حدٍّ سينجح هذا الأمير الشاب المتهور في كسب معركته الجديدة، وهو الذي خسر قبل ذلك أغلب المعارك التي جرّ إليها بلاده؟
عندما يدلي محمد بن سلمان بهذا التصريح يكشف عن أمرين، إما إنه لم يقرأ تاريخ بلاده (أو لم يستوعب ما قرأه)، أو أن للرجل قدرات خارقة، لا يعلمها إلا هو، تجعله واثقا من نفسه وقادرا على حكم بلاده من دون الحاجة إلى سند شرعي ديني كبير، كالذي ظلت توفره الوهابية لحكم آل سعود منذ قيام مملكتهم.
احتاجت حرب آل سعود، لتأسيس مملكتهم في بداية القرن الماضي، إلى سند شرعي لتبرير
ضحاياها الذين تقدّرهم كتب التاريخ بنحو سبعة آلاف قتيل، وأيضا إلى ركيزة دينية يؤسسون عليها مُلكم، فكان الاتفاق التاريخي بين محمد بن عبد الوهاب وعبد العزيز آل سعود، على أن يكون الملك لآل سعود و"الدين" الرسمي للدولة يجسده الفكر الوهابي المتشدّد، وهو ما عرف بعهد "المذهب والسيف" الذي ما زال يجمع بين الوهابيين وآل سعود، ويجسّده العلم الوطني السعودي الذي يجمع بين كلمة التوحيد وصورة السيف المسلول.
وحتى قبل تصريح بن سلمان، فإن هذا التعاقد بين "عقيدة المصلح" و"سيادة الأمير" لم يكن دائما على وئام تام، إذ عرفت العلاقة بين الحليفين لحظات توتر كثيرة تجسدت في خروج تياراتٍ من داخل الفكر الوهابي، تدعو إلى شق عصا الطاعة المشروطة، وحمل السلاح ضد آل سعود، بدأت مع مجموعة جهيمان العتيبي الذي قاد هجوما مسلحا للاستيلاء على الحرم المكي عام 1979، وكان آخرها تنظيم القاعدة الذي نجح في ترويج الفكر الجهادي سبيلا إلى إقامة دولة الخلافة، ونشره دخل أوساط شبابٍ كثيرين باتوا يتبنون العنف لتحقيق قناعاتهم الفكرية. وأغلب هؤلاء الشباب هم الذين شكلوا مقاتلي تنظيم القاعدة، ويشكلون اليوم جند "داعش" وحطب حروبها المستعرة.
وبالعودة إلى تصريح بن سلمان عن نشر بلاده الفكر الوهابي، فهو اعتراف ضمني بأنها مهد هذا الفكر المتطرّف الذي أخرج بن لادن وأبوبكر البغدادي، وقوله إنه يريد العودة إلى مبادئ إسلام معتدل تأكيد على أن الإسلام الحالي المطبق في السعودية غير معتدل. وقد سبق لبن سلمان أن توعد بتدمير الأفكار المتطرّفة في بلاده وإلى الأبد، وهو بذلك يسعى إلى تحقيق هدفين أساسيين: توجيه رسالة إلى الخارج تعطي الانطباع عنه شخصا منفتحا يريد أن يحدث "ثورة" حداثية في بلاده. واستغلال حربه ضد التطرف، للقضاء على كل الأصوات المعارضة، والتي ليست بالضرورة كلها متطرّفة. وقد بدأت بالفعل هذه الحرب من خلال اعتقال عشرات الناشطين ومشايخ الدين والصحافيين، وحتى أعضاء من العائلة المالكة بسبب معارضتهم سياسات بن سلمان، وليس لأنهم أصحاب فكر متطرّف. وبذلك يكون بن سلمان قد صوّب حجره لضرب عصفورين في الآن نفسه: تثبيت أسس حكمه في الداخل، وكسب شرعية خارجية هو في أمس الحاجة إليها قبل إعلان نفسه ملكا للبلاد.
من جهة أخرى، في دعوة بن سلمان إلى مواجهة الفكر المتطرف، لو صدقت النيات، ما هو إيجابي، ولو تحققت فعلا فإنها ستشكل أكبر تحول تاريخي داخل بلاده، سيكون له لا محالة
تأثير على محيطها الإقليمي والفكري والعقائدي. ولكن المشكل أن بن سلمان الذي يريد مواجهة الفكر المتطرّف داخل بلاده ليس لديه تصور كامل للتغيير الذي يريده، فهو كما يتبين من خطته "رؤية 2030"، يريد فقط أن يعيد بناء نموذج "الإمارات العربية المتحدة"، متأثرا بعرَّابه محمد بن زايد، فهل هذا هو النموذج الأنسب لمحاربة الفكر المتطرّف؟ ويُطرح هذا التساؤل، لأن تصريح بن سلمان تزامن مع ما كشفت عنه "واشنطن بوست" أن زعيم حركة طالبان السابق، الملا أختر منصور، كان يتردد على دبي للتسوق، وجمع التبرعات لخوض حرب حركته التي ذهب ضحيتها أبرياء كثيرون. و"طالبان" هي نتاج صرف للفكر المتطرّف الذي صدرته السعودية إلى أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.
من شأن "ثورة" محمد بن سلمان، كما يتم ترويجها في بعض وسائل الإعلام الغربية، أن تخلخل نظام حكمٍ راكد بني على توافق تاريخي ما بين رجال دين متزمتين وآل سعود. وفي هذا ما هو إيجابي للمواطن السعودي الذي أدّى غاليا ثمن هذا التوافق من حريته وحقوقه. لذلك لا يجب أن نبخس دعوة بن سلمان، فهو على الأقل كانت له الجرأة للاقتراب من هذه "الارتباط" المقدس ما بين رجال الدين وملوك السعودية. لكن يجب أن ننتظر حتى تتضح الصورة أكثر، لأن العرض قد يكون أيضا مجرد عملية تسويقٍ لتعزيز سلطته في الداخل، والبحث عن غطاء لها في الخارج، فما زال النظام السعودي يستند إلى المؤسسة الدينية الممثلة في الفكر الوهابي الذي ترسخ في المجتمع السعودي. وتغيير نمط التفكير داخل المجتمعات لا يتحقق بالسرعة التي يتصورها بن سلمان في رؤيته الثلاثينية.
ما يعيب "ثورة" بن سلمان أن هدفها ليس فكريا ولا مجتمعيا، وإنما هو سعي حثيث من أجل التحكم في زمام السلطة، وبسط سيطرته على الحكم. وإذ لم تجد حتى الآن أي معارضة حقيقية من الفكر الذي تحاربه، لأن أغلب شيوخه تحولوا إلى موظفين كبار يراعون مصالحكم قبل مبادئهم، فهذا لا يمنع من ظهور مقاومات، رد فعل عليها، وقد تلجأ بعض هذه المقاومات إلى العمل تحت الأرض، إذا ضاق بها سطحها، وهذا هو أسوأ سيناريو قد يواجه خطط بن سلمان ويخرّبها.
عندما يدلي محمد بن سلمان بهذا التصريح يكشف عن أمرين، إما إنه لم يقرأ تاريخ بلاده (أو لم يستوعب ما قرأه)، أو أن للرجل قدرات خارقة، لا يعلمها إلا هو، تجعله واثقا من نفسه وقادرا على حكم بلاده من دون الحاجة إلى سند شرعي ديني كبير، كالذي ظلت توفره الوهابية لحكم آل سعود منذ قيام مملكتهم.
احتاجت حرب آل سعود، لتأسيس مملكتهم في بداية القرن الماضي، إلى سند شرعي لتبرير
وحتى قبل تصريح بن سلمان، فإن هذا التعاقد بين "عقيدة المصلح" و"سيادة الأمير" لم يكن دائما على وئام تام، إذ عرفت العلاقة بين الحليفين لحظات توتر كثيرة تجسدت في خروج تياراتٍ من داخل الفكر الوهابي، تدعو إلى شق عصا الطاعة المشروطة، وحمل السلاح ضد آل سعود، بدأت مع مجموعة جهيمان العتيبي الذي قاد هجوما مسلحا للاستيلاء على الحرم المكي عام 1979، وكان آخرها تنظيم القاعدة الذي نجح في ترويج الفكر الجهادي سبيلا إلى إقامة دولة الخلافة، ونشره دخل أوساط شبابٍ كثيرين باتوا يتبنون العنف لتحقيق قناعاتهم الفكرية. وأغلب هؤلاء الشباب هم الذين شكلوا مقاتلي تنظيم القاعدة، ويشكلون اليوم جند "داعش" وحطب حروبها المستعرة.
وبالعودة إلى تصريح بن سلمان عن نشر بلاده الفكر الوهابي، فهو اعتراف ضمني بأنها مهد هذا الفكر المتطرّف الذي أخرج بن لادن وأبوبكر البغدادي، وقوله إنه يريد العودة إلى مبادئ إسلام معتدل تأكيد على أن الإسلام الحالي المطبق في السعودية غير معتدل. وقد سبق لبن سلمان أن توعد بتدمير الأفكار المتطرّفة في بلاده وإلى الأبد، وهو بذلك يسعى إلى تحقيق هدفين أساسيين: توجيه رسالة إلى الخارج تعطي الانطباع عنه شخصا منفتحا يريد أن يحدث "ثورة" حداثية في بلاده. واستغلال حربه ضد التطرف، للقضاء على كل الأصوات المعارضة، والتي ليست بالضرورة كلها متطرّفة. وقد بدأت بالفعل هذه الحرب من خلال اعتقال عشرات الناشطين ومشايخ الدين والصحافيين، وحتى أعضاء من العائلة المالكة بسبب معارضتهم سياسات بن سلمان، وليس لأنهم أصحاب فكر متطرّف. وبذلك يكون بن سلمان قد صوّب حجره لضرب عصفورين في الآن نفسه: تثبيت أسس حكمه في الداخل، وكسب شرعية خارجية هو في أمس الحاجة إليها قبل إعلان نفسه ملكا للبلاد.
من جهة أخرى، في دعوة بن سلمان إلى مواجهة الفكر المتطرف، لو صدقت النيات، ما هو إيجابي، ولو تحققت فعلا فإنها ستشكل أكبر تحول تاريخي داخل بلاده، سيكون له لا محالة
من شأن "ثورة" محمد بن سلمان، كما يتم ترويجها في بعض وسائل الإعلام الغربية، أن تخلخل نظام حكمٍ راكد بني على توافق تاريخي ما بين رجال دين متزمتين وآل سعود. وفي هذا ما هو إيجابي للمواطن السعودي الذي أدّى غاليا ثمن هذا التوافق من حريته وحقوقه. لذلك لا يجب أن نبخس دعوة بن سلمان، فهو على الأقل كانت له الجرأة للاقتراب من هذه "الارتباط" المقدس ما بين رجال الدين وملوك السعودية. لكن يجب أن ننتظر حتى تتضح الصورة أكثر، لأن العرض قد يكون أيضا مجرد عملية تسويقٍ لتعزيز سلطته في الداخل، والبحث عن غطاء لها في الخارج، فما زال النظام السعودي يستند إلى المؤسسة الدينية الممثلة في الفكر الوهابي الذي ترسخ في المجتمع السعودي. وتغيير نمط التفكير داخل المجتمعات لا يتحقق بالسرعة التي يتصورها بن سلمان في رؤيته الثلاثينية.
ما يعيب "ثورة" بن سلمان أن هدفها ليس فكريا ولا مجتمعيا، وإنما هو سعي حثيث من أجل التحكم في زمام السلطة، وبسط سيطرته على الحكم. وإذ لم تجد حتى الآن أي معارضة حقيقية من الفكر الذي تحاربه، لأن أغلب شيوخه تحولوا إلى موظفين كبار يراعون مصالحكم قبل مبادئهم، فهذا لا يمنع من ظهور مقاومات، رد فعل عليها، وقد تلجأ بعض هذه المقاومات إلى العمل تحت الأرض، إذا ضاق بها سطحها، وهذا هو أسوأ سيناريو قد يواجه خطط بن سلمان ويخرّبها.