19 أكتوبر 2019
الحراك العربي.. مسارات متعددة وقوى مناوئة متحدة
لا أحد كان يتوقع أن يعيش العالم العربي في عقد واحد حراكاً ضخماً يغير صورته محلياً وعالمياً، فهو لم يعد تلك الكتلة البشرية الساكنة الخنوعة المعتادة على الإذعان الاجتماعي المفروض قسرياً من أنظمة تسلطية جاثمة على صدور العرب منذ سنوات الاستقلال، تسلطية عوّضت الظلم الاستعماري بظلم محلي الصنع. وتعودت الأنظمة السياسية العربية، باختلاف طبيعتها وشرعيتها المزعومة (الدينية، الثورية..) على إذعان المجتمع متفنّنة في أساليب إعادة إنتاج نفسها عقودا. وبدا المشهد السياسي العربي على درجةٍ عاليةٍ من الجمود، وكأن واقع الأمة مسألة مكتوبة ومحسومة سلفاً لا مفرّ منها.
إلا أن الانتفاضات الديمقراطية العربية التي بدأت من تونس قبل أن تنتقل عدواها إلى دول عربية أخرى أحدثت قطيعة استراتيجية في المشهد السياسي العربي الراكد والخَنوع، وأدخلت العربي عصر المطالبة بالحرية والديمقراطية. إنها هبة جماهيرية، لا سابقة لها في تاريخ العرب، فهي بمثابة الموجة الديمقراطية الأولى، إلا أنها أُجهضت في مهدها، باستثناء الحالة التونسية؛ إذ سرعان ما استعادت الأنظمة التسلطية العربية عافيتها القمعية، فتلك التي كانت مهدّدة بالعدوى تمكّنت من تجاوز المحنة، أما التي ركبت الموجة، وتدخلت في شؤون أنظمة أخرى، فتعتبر نفسها في منأىً عن هذا الحراك الشعبي، وبلغ بها الغرور السياسي درجة تحولها إلى قوى مناوئة للحراك العربي، حيث تستغل نفوذها ومالها وأجهزتها الإعلامية والدينية لإجهاض الحراك والحيلولة دون تحقيق مطالب المتظاهرين. ولكن سيأتي اليوم الذي ينقلب فيه السحر على الساحر.
وعلى الرغم من أن الانتفاضات الديمقراطية اندلعت في البيئة العربية الواحدة، إلا أن مساراتها تختلف باختلاف السياقات الوطنية، ما جعل المشهد الحراكي على درجةٍ عاليةٍ من الثراء
والتنوع، فالانتفاضة التونسية محلية المنشأ والأداء، وهي الوحيدة التي توّجت بتجربة انتقالية ناشئة في العالم العربي، ومن ثم فهي بمثابة خنجرٍ في خاصرة الأنظمة العربية القائمة. أما الانتفاضة المصرية فأُجهضت، وقادت إلى مشهدٍ مناقضٍ تماماً للمشهد التونسي؛ أي تدعيم التسلطية باستحواذ العسكر على السلطة، من خلال مرحلتين تخللتهما مرحلة الرئيس المنتخب الذي أطيح بانقلاب عسكري. وبين المشهدين، نجد الحالتين، الليبية والسورية، حيث قادت الانتفاضتان الديمقراطيتان إلى حربٍ أهليةٍ تتداخل فيها العوامل الإقليمية والدولية. لعبت أنظمة عربية دوراً بارزاً في المحنتين، الليبية والسورية، بدعوى دعم المطالب الشعبية في وقتٍ لا تحترم مطالب شعوبها! إيثار مخادع ينم عن حسابات سياسية مبتغاها إجهاض المطلب الديمقراطي عربياً. فليبيا التي بدأت انتفاضتها محليةً تحولت تدريجياً إلى دينامية هجينة محلية - خارجية بتنفيذ خارجي، انتهت بسقوط نظام القذافي فقتله، لكن النتيجة، في نهاية المطاف، الحرب الأهلية والدمار والخراب. هكذا سقط الليبيون في فخ "الدعم الخارجي"، لا سيما العربي: التخلص من النظام شيء وبناء الديمقراطية شيء آخر، كما أن أنظمة غير ديمقراطية يستحيل أن تدعم المطلب الديمقراطي، وإن فعلت، فإن المسألة لا تعدو أن تكون تكتيكية توظيفية. ألم تساند دول عربية سياسياً ومالياً، وحتى عسكرياً، التدخل في ليبيا لإنقاذ الشعب من النظام، وفي الوقت نفسه، تدخلت في البحرين لإنقاذ النظام من الشعب؟
وفي سورية، انتهت الانتفاضة إلى حرب أهلية بأبعاد إقليمية ودولية متداخلة. وإذا كانت الحالة المصرية نقيض التونسية، فإن الوضع السوري نقيض الحالة الليبية، لأن في سورية ــ الانتفاضة، تمت أقلمة (من الإقليمية) الأزمة وتدويلها، بتفاعلاتها الإرهابية (داعش وغيره)، ما تسبب في حرب أهلية، لكن النتيجة آلت، في نهاية الأمر، لصالح النظام الحاكم. بيد أن الرابح في أي حرب أهلية خاسر أيضاً، لأن البلد يكون عموماً قد خُرب على آخره، وشرّد أهله.
ويمثل اليمن نموذجاً آخر في المشهد الحراكي العربي، لأن انتفاضته قادت إلى أقلمة مزدوجة، عربية وإيرانية، وإلى تدخل عسكري عربي مباشر بقيادة السعودية، فالقوى العربية المناوئة
للحراك في المنطقة، والذي لم يفتأ يتوسّع ويتطور، كانت عموماً تفضل التدخل/ الإجهاض عبر أطراف ثالثة (حروب بالنيابة)، إلا أنها غيرت استراتيجيتها لمّا تعلق الأمر بالبحرين واليمن، محبذة التدخل المباشر. ولا يعود التدخل في اليمن إلى النفوذ الإيراني فقط، كما يقول الائتلاف العربي المتدخل في "بلاد العرب السعيدة" التي أصبحت بلاداً تعيسةً، وإنما لتقاسمه الحدود مع السعودية بالخصوص، إذ لا يمكن للقوى العربية المناوئة للحراك والديمقراطية التي تدخلت في البحرين لحماية النظام من الشعب، أن تقبل بحراكٍ في اليمن على الحدود الجنوبية للسعودية، بغض النظر عما يمكن قوله عن طبيعة الوضع ومآلاته في اليمن وأبعاده المذهبية. إذاً، هناك حدود جغرافية حمراء وُضعت في وجه الحراك العربي، لا يمكن تجاوزها وفق أنظمة عربية.
اعتقدت هذه الأنظمة التي اعتبرت أنها تعاملت بحزم مع أحداث الربيع العربي، وحولت مسار حراكه في الاتجاه المرغوب، أن إجهاض الموجة الأولى من الحراك الشعبي سيقيها وحلفاءها موجة أخرى، إلا أن حساباتها خاطئة، لأن السيرورة الاجتماعية معقدة، يصعب توقع تحولاتها ومآلاتها، فإذا كان حراك الريف في المغرب بقي جهوياً محصوراً في منطقةٍ بعينها، ولم تنتقل عدواه إلى مختلف أنحاء البلاد، فإن الحراك وطني بامتياز في كل من الجزائر والسودان، يدشن موجةً ثانيةً من الانتفاضات الديمقراطية العربية. وهنا أيضاً يتنوع المشهد الحراكي، فإذا كان قد قاد، بفضل ضغط العسكر، إلى تنحي الرئيسين، السوداني عمر البشير (بعد 30 سنة من الحكم) والجزائري عبد العزيز بوتفليقة (بعد 20 سنة من الحكم)، فإن المسار يختلف من بلد إلى آخر، على الرغم من بعض أوجه الشبه، فعسكر الجزائر يصرون على ما يسمّونه الإطار الدستوري، والذي لم يبق منه إلا الاسم، لرفض المرحلة الانتقالية التي يريدها الحراك، وأبقوا
على واجهة مدنية "دستورية"، محاولة لإخفاء سلطتهم الفعلية، وتجنباً لمواجهة مفتوحة وواضحة مع الحراك. أما عسكر السودان فدخلوا في مواجهة مباشرة ومفتوحة مع الحراك، ما أدى إلى عصيان مدني، بعد فشل كل محاولات الحوار. وكلاهما يقول بالحوار ولكن كل وفق شروطه، وهذا ليس حوارا، وإنما مطالبة بتزكية خريطة الطريق التي تريد قيادة الجيش في البلدين فرضها. وعلى عكس الأزمة الجزائرية التي تبقى، إلى الآن، في منأى عن التدخلات/ الاختراقات الخارجية، فإن الأزمة السودانية سرعان ما تحولت إلى مسرح جديد لعبث القوى العربية المناوئة للحراك. ويُعد الجوار الجغرافي في الحالة السودانية عاملاً حاسماً أيضاً، إذ لا يمكن لعسكر مصر (وحلفائهم) الذين أجهضوا المطلب الديمقراطي في مصر، أن يقبلوا به في السودان. ولذلك تراهم يحشدون قواهم لنجدة القيادة العسكرية السودانية، حتى تصمد في وجه الحراك، وللتستر على ما تقترفه في حق المواطنين (مقتل العشرات منهم خلال فض الاعتصام بالقوة).
والحقيقة أنه لا توجد دولة عربية واحدة تساند المطلب الديمقراطي محلياً (داخل حدودها) وعربياً، فالدول المناوئة للحراك عربياً، إنما تناوئه لحسابات سياسية خاصة بها، والدول التي تدعمه، وهي نادرة جداً، إنما تفعل ذلك أيضاً لحسابات سياسية تخصها. ومن ثم فإن الحراك العربي، في موجته الثانية، أمام امتحان عسير، وعليه أن يخرج منتصراً من هذه المحنة أمام القوى المناوئة له. إنها جولة ثانية حاسمة؛ إما أن يعيد فيها الحراك الانتفاضات العربية إلى مسارها الصحيح، وتلتحق دول أخرى بتونس، أو سيكون مآله الإجهاض، وبالتالي تدعيم التسلطية، وربما مستقبلاً قتل التجربة الانتقالية التونسية الرائدة في مهدها. بغض النظر عن الطابع الملحمي للحراك في بعض السرديات، فإنه رهان استراتيجي، لأنه يتعلق برفض الإذعان للتسلطية والتحرّر من العبودية السياسية المحلية الصنع. لذا على أهل الحراك في المنطقة العربية الصبر والمقاومة، وإلا فإن القوى المناوئة له، محلياً وعربياً، ستجترئ عليه أكثر فأكثر.
إلا أن الانتفاضات الديمقراطية العربية التي بدأت من تونس قبل أن تنتقل عدواها إلى دول عربية أخرى أحدثت قطيعة استراتيجية في المشهد السياسي العربي الراكد والخَنوع، وأدخلت العربي عصر المطالبة بالحرية والديمقراطية. إنها هبة جماهيرية، لا سابقة لها في تاريخ العرب، فهي بمثابة الموجة الديمقراطية الأولى، إلا أنها أُجهضت في مهدها، باستثناء الحالة التونسية؛ إذ سرعان ما استعادت الأنظمة التسلطية العربية عافيتها القمعية، فتلك التي كانت مهدّدة بالعدوى تمكّنت من تجاوز المحنة، أما التي ركبت الموجة، وتدخلت في شؤون أنظمة أخرى، فتعتبر نفسها في منأىً عن هذا الحراك الشعبي، وبلغ بها الغرور السياسي درجة تحولها إلى قوى مناوئة للحراك العربي، حيث تستغل نفوذها ومالها وأجهزتها الإعلامية والدينية لإجهاض الحراك والحيلولة دون تحقيق مطالب المتظاهرين. ولكن سيأتي اليوم الذي ينقلب فيه السحر على الساحر.
وعلى الرغم من أن الانتفاضات الديمقراطية اندلعت في البيئة العربية الواحدة، إلا أن مساراتها تختلف باختلاف السياقات الوطنية، ما جعل المشهد الحراكي على درجةٍ عاليةٍ من الثراء
وفي سورية، انتهت الانتفاضة إلى حرب أهلية بأبعاد إقليمية ودولية متداخلة. وإذا كانت الحالة المصرية نقيض التونسية، فإن الوضع السوري نقيض الحالة الليبية، لأن في سورية ــ الانتفاضة، تمت أقلمة (من الإقليمية) الأزمة وتدويلها، بتفاعلاتها الإرهابية (داعش وغيره)، ما تسبب في حرب أهلية، لكن النتيجة آلت، في نهاية الأمر، لصالح النظام الحاكم. بيد أن الرابح في أي حرب أهلية خاسر أيضاً، لأن البلد يكون عموماً قد خُرب على آخره، وشرّد أهله.
ويمثل اليمن نموذجاً آخر في المشهد الحراكي العربي، لأن انتفاضته قادت إلى أقلمة مزدوجة، عربية وإيرانية، وإلى تدخل عسكري عربي مباشر بقيادة السعودية، فالقوى العربية المناوئة
اعتقدت هذه الأنظمة التي اعتبرت أنها تعاملت بحزم مع أحداث الربيع العربي، وحولت مسار حراكه في الاتجاه المرغوب، أن إجهاض الموجة الأولى من الحراك الشعبي سيقيها وحلفاءها موجة أخرى، إلا أن حساباتها خاطئة، لأن السيرورة الاجتماعية معقدة، يصعب توقع تحولاتها ومآلاتها، فإذا كان حراك الريف في المغرب بقي جهوياً محصوراً في منطقةٍ بعينها، ولم تنتقل عدواه إلى مختلف أنحاء البلاد، فإن الحراك وطني بامتياز في كل من الجزائر والسودان، يدشن موجةً ثانيةً من الانتفاضات الديمقراطية العربية. وهنا أيضاً يتنوع المشهد الحراكي، فإذا كان قد قاد، بفضل ضغط العسكر، إلى تنحي الرئيسين، السوداني عمر البشير (بعد 30 سنة من الحكم) والجزائري عبد العزيز بوتفليقة (بعد 20 سنة من الحكم)، فإن المسار يختلف من بلد إلى آخر، على الرغم من بعض أوجه الشبه، فعسكر الجزائر يصرون على ما يسمّونه الإطار الدستوري، والذي لم يبق منه إلا الاسم، لرفض المرحلة الانتقالية التي يريدها الحراك، وأبقوا
والحقيقة أنه لا توجد دولة عربية واحدة تساند المطلب الديمقراطي محلياً (داخل حدودها) وعربياً، فالدول المناوئة للحراك عربياً، إنما تناوئه لحسابات سياسية خاصة بها، والدول التي تدعمه، وهي نادرة جداً، إنما تفعل ذلك أيضاً لحسابات سياسية تخصها. ومن ثم فإن الحراك العربي، في موجته الثانية، أمام امتحان عسير، وعليه أن يخرج منتصراً من هذه المحنة أمام القوى المناوئة له. إنها جولة ثانية حاسمة؛ إما أن يعيد فيها الحراك الانتفاضات العربية إلى مسارها الصحيح، وتلتحق دول أخرى بتونس، أو سيكون مآله الإجهاض، وبالتالي تدعيم التسلطية، وربما مستقبلاً قتل التجربة الانتقالية التونسية الرائدة في مهدها. بغض النظر عن الطابع الملحمي للحراك في بعض السرديات، فإنه رهان استراتيجي، لأنه يتعلق برفض الإذعان للتسلطية والتحرّر من العبودية السياسية المحلية الصنع. لذا على أهل الحراك في المنطقة العربية الصبر والمقاومة، وإلا فإن القوى المناوئة له، محلياً وعربياً، ستجترئ عليه أكثر فأكثر.