ومنعت الاعتبارات المذهبية عناصر الحزب من مواصلة توغلهم باتجاه جرود بلدة عرسال، بعد أن خاضوا طوال سنوات معارك مُتعددة مع مقاتلي التنظيمين للسيطرة على حدود لبنان الشرقية وعزلها عن الأراضي السورية، وذلك في سياق المعارك التي خاضها مقاتلو الحزب ونجحوا فيها بإعادة سيطرة النظام السوري على منطقة القلمون، التي تحدها حمص شمالاً وريف دمشق جنوباً. وشكلت هذه المنطقة مدخلاً لتدفق المقاتلين المحسوبين على "داعش" و"النصرة" إلى جرود الأراضي اللبنانية، وممراً للسيارات المُفخخة، التي انفجرت في مُختلف المناطق اللبنانية بين عامي 2013 و2014، وأسفرت عن مقتل عشرات المدنيين. وقد جدد الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، التأكيد على بقاء هدف تأمين الحدود كأحد الأهداف العسكرية الأساسية لمقاتليه في سورية. وسبق أن دعا، في أحد كلماته المباشرة، المقاتلين المنضوين تحت قيادة "داعش" و"فتح الشام" لقبول التفاوض وتجنب "معركة محسومة النتائج". مع العلم أن الحزب كان أطلق مطلع العام الحالي مفاوضات على مسارين، عبر "سرايا أهل الشام"، وهي مليشيا سورية مُقربة من النظام السوري ومن الحزب، ويملك مسؤولها أبو طه السوري، خطوط تواصل مع قيادة "فتح الشام" في الجرود. والمسار الآخر مع المسؤولين الدينيين والمدنيين عن مخيمات اللاجئين السوريين في بلدة عرسال.
وهدفت مفاوضات الحزب إلى توسيع نموذج "المصالحات" في البلدات السورية، لتشمل اللاجئين السوريين المُقيمين في عرسال وجرودها، ويتحدر معظمهم من بلدات منطقة القلمون، وإلى إنهاء الوجود العسكري لـ"فتح الشام" و"داعش" في الجرود من دون معركة. وسجلت المفاوضات تقدماً في مراحلها الأولى، ولا سيما في ملف اللاجئين، مع تسجيل انتقال المئات منهم إلى بلدتي عسال الورد والطفيل برعاية "أهل الشام" و"حزب الله"، بتسهيل لوجستي من الجيشين اللبناني والسوري. بينما فشل المفاوض السوري في تحقيق خرق جدي في ملف التفاوض مع مقاتلي "فتح الشام". وتقول مصادر غير رسمية لبنانية، متابعة لملف المفاوضات، إن سبب التعثر هو "شعور أمير فتح الشام، أبو مالك التلي، بالقوة نتيجة عوامل جغرافية تجعله يعتقد بإمكانية الانتقال إلى إدلب إذا ما استدعت الحاجة من دون عقد مصالحة أو تفاوض مع حزب الله، وبسبب حجز مقاتليه لجثث 3 على الأقل من مقاتلي حزب الله سقطوا خلال مواجهات سابقة بين الطرفين في الجرود".
قبل الشتاء
وكما درجت العادة في الجرود خلال السنوات الماضية، تشهد فترة فصلي الربيع والصيف ارتفاع وتيرة العمليات العسكرية الهجومية التي يشنها عناصر "داعش" و"فتح الشام" باتجاه مواقع الحزب في الجرود، وباتجاه مواقعهما، في إطار الحرب الشاملة التي يخوضها التنظيمان في مُختلف المناطق السورية. بينما يشهد فصل الشتاء جموداً (يتجاوز ارتفاع المنطقة عن سطح الأرض الـ2000 متر)، تخرقه محاولات توغل محدودة أو تبادل استهداف الدشم العسكرية بالصواريخ الموجهة. وفي كل الفصول تنتهي محاولات تنقل المُسلحين بشكل مكشوف إلى استهدافهم من قبل الجيش اللبناني، الذي وسّعت المساعدات العسكرية الغربية من خياراته الهجومية، وباتت تشمل مدافع ميدان أميركية وطائرات مُسلحة من دون طيار ومروحيات هجومية خفيفة، إلى جانب ترسانته التقليدية من صواريخ الكاتيوشا والغراد. وينضم الجيش السوري في أوقات مُتفرقة إلى المعارك من خلال استهداف جرود بلدة عرسال بالغارات الجوية، وأحياناً بشكل غير دقيق أو مُحدد.
ويُشكل عامل الطقس أحد البنود التي يبني عليها "حزب الله" خيارات المعركة المُقبلة، التي ستكون الأخيرة بعد إحكامه السيطرة على مُختلف المعابر الحدودية غير الشرعية بين لبنان وسورية، قبل قيامه في مايو/أيار الماضي بتسليم مواقع حدودية للجيش اللبناني بعد انتفاء التهديد المُفترض الذي شكلته هذه المعابر على المواطنين اللبنانيين المُقيمين في البلدات القريبة من الحدود. ويُشكل اللاجئون السوريون المُقيمون داخل بلدة عرسال، حيث الانتشار الأمني والعسكري لأجهزة الدولة اللبنانية، وخارجها بعيداً عن أي رقابة أمنية أو عسكرية، عاملاً آخر يُضاف إلى عامل الطقس في تحديد ملامح المعركة المقبلة في حال استمر فشل المفاوضات. وتقدر مصادر محلية عددهم بنحو 90 ألف لاجئ، يقيمون داخل البلدة (نحو نصفهم مُسجلون لدى الأمم المتحدة)، و30 ألفاً يقيمون في مخيمات عشوائية في الجرود وعند الأطراف البعيدة لعرسال. وتتجنب عدة جمعيات إغاثية لبنانية دخول المخيمات الواقعة خارج نطاق انتشار الجيش اللبناني بسبب "المخاطر الأمنية" وبسبب "الانتشار الأمني لداعش وفتح الشام داخل المخيمات الواقعة في الجرود"، بحسب أحد المشرفين على العمل الإغاثي في عرسال.
خلاف سياسي
وطبعت الخلافات السياسية والطائفية في لبنان مُختلف مراحل التعاطي مع النتائج الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لتدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان، بعد ردة الفعل الوحشية لقوات النظام السوري بعد الثورة. وبلغت ذروة التجييش الطائفي مع وصول طلائع مقاتلي "حزب الله" إلى جرود عرسال، وتذوقهم الكرز العرسالي الشهير، في العام 2015، الذي حُرم أهالي البلدة من قطفه وبيعه بسبب العمليات العسكرية في الجرود، ونتيجة القيود التي تم فرضها من قبل الجيش على حركة المزارعين في الجرود بعد معركة العام 2014. ورفع وصول مقاتلي الحزب إلى جرود البلدة ذات الهوية المذهبية السنية الوحيدة في البقاع الشمالي، من الحساسية الطائفية في لبنان، والتي تراكمت نتيجة انغماس "حزب الله" في المعارك إلى جانب النظام على طول الخارطة السورية، وفي تجاوز لأهداف "حماية لبنان من الخطر التكفيري" كما قال حسن نصر الله، بُعيد كشف مشاركة الحزب للجيش السوري في العمليات العسكرية. وسرعان ما انتقل الخلاف إلى طاولة مجلس الوزراء، برئاسة الرئيس تمام سلام، ليستقر الأمر على تفويض الجيش اللبناني الانتشار في عرسال وعند حدودها لعزلها عن الجرود، وهو ما أجّل الخلاف السياسي، لكنه لم يُحقق الهدف العسكري المركزي لـ"حزب الله" بإحكام السيطرة على الحدود الشرقية وإنهاء أي وجود عسكري على الحدود.
والجديد اليوم، تشكيل مقتل لاجئين سوريين ربما تحت التعذيب خلال توقيفهم في مراكز الجيش اللبناني، عنواناً للخلاف السياسي المُستمر حول كيفية التعاطي مع اللاجئين. وتحول النقاش السياسي إلى "جدوى التنسيق مع النظام السوري بهدف نقل اللاجئين من لبنان إلى سورية"، وهو الأمر الذي ناقشه مجلس الوزراء في جلسته، التي عقدها الأسبوع الماضي، وتجاهل بيانها الرسمي نقاش أو شرح مقتل نحو 10 لاجئين سوريين قيد التوقيف بعد عملية أمنية نفذها الجيش في مخيمين يقعان على أطراف عرسال، تخللها مقتل طفلة لاجئة وتفجير 5 انتحاريين لأنفسهم وجرح 7 عسكريين وتوقيف نحو 400 لاجئ. ومع ارتفاع حدة الضغط الشعبي والمطالبات المحلية والدولية والأممية لجمعيات معنية بحقوق الإنسان، تم تكليف لجنة عسكرية التحقيق في مجريات العملية وفي مقتل اللاجئين قيد التوقيف، ولكن دون إعلان رسمي صريح عن الأمر في محاولة لتكريس "قدسية" ما للجيش يعتقد ناشطون وحقوقيون أنها تشكل خطراً على الحريات وعلى حقوق الإنسان في هذا البلد.
وفي حين فشلت القوى السياسية اللبنانية في الوصول إلى رؤية مشتركة للتعاطي مع ملف اللجوء ومع الملف الأمني لجرود عرسال، فإنه من المتوقع أن يسبق "حزب الله"، بخطواته الميدانية والعسكرية، قرار السلطات اللبنانية كما فعل طوال سنوات الأزمة السورية. يُذكر أنه في العام 2014، اندلعت معركة بين تنظيمي "داعش" و"فتح الشام"، وبين الجيش اللبناني، داخل عرسال، على خلفية توقيف الجيش قائد إحدى المجموعات المسلحة التي بايعت زعيم "داعش"، أبو بكر البغدادي، وهو التطور الذي أدى إلى زيادة الضغط الأمني والعددي والاقتصادي للاجئين على البلدة، في ظل تقصير الدولة اللبنانية عن متابعة أوضاعهم. وأسفرت هذه المعركة عن مقتل عشرات المدنيين والعسكريين والمسلحين السوريين، واختطاف عسكريين من الجيش وقوى الأمن الداخلي، تم إعدام أربعة منهم من قبل التنظيمين، قبل إطلاق سراح 16 منهم في 2015. ويبقى مصير تسعة عسكريين أسرهم "داعش" مجهولاً حتى اليوم. وسُجلت مشاركة عناصر من "حزب الله" في معركة عرسال من الجانبين اللبناني والسوري. وانتقلت المعارك بعدها إلى جرود البلدة التي وصلها عناصر الحزب بعد استيلائهم على مناطق واسعة من جرود القلمون. وينحصر انتشار عناصر "داعش" و"فتح الشام" حالياً في حيز جغرافي ضيق من جرود عرسال، ويخوضون معارك بين بعضهم البعض، إلى جانب معاركهم مع "حزب الله" واستهداف الجيش اللبناني الدائم لهم بالمدفعية والغارات الجوية.