الحداثة ضد الديمقراطية
في كلّ أنحاء العالم، أصبحت قضايا، مثل الإجهاض، الحريات الفردية، الإعدام، مُحددة للتقاطبات الجديدة بين العائلات السياسية والفكرية التي لم تعد قادرة على إعادة تعريف هويتها، بناءً على مرجعيات أيديولوجية حادة وواضحة التباين، ولم يعد هامش المبادرة الذي بات يتوفر عليه الفاعل السياسي /الحكومي تجاه السياسات العمومية الاجتماعية يسمح بفرز واضح للمشاريع على أساس الأجوبة الاجتماعية والاقتصادية. وقد جعلت كل هذه التحولات المرجعيات القيمية، في ساحات سياسية كثيرة، محددة للفرز والتقاطب الانتخابي بين القوى السياسية.
المُجتمع الديمقراطي هو، بالتعريف، الذي يسمح بتدبير توتراته القيمية والهوياتية، بعيداً عن التمترسات المذهبية والعقائدية، وبعيداً، بالطبع، عن خطابات التكفير والكراهية والعنف. ومؤكد أن تجارب الشعوب والأمم حولنا تقدم عناصر نجاح "الوصفات" الضرورية لهذا التدبير الذي يُجنب حالة الاحتراب المجتمعي، والشّرخ الحاد للنسيج الوطني، ويسمح، في الوقت نفسه، للمجتمعات بالتعبير عن "تناقضاتها" القيمية.
ولعلّ القاعدة الأولى في تدبير أسئلة الاستقطاب المُجتمعي، وعلى العكس من قضايا السياسات العمومية، هي تجاوز الحلول العددية المبنية على أساس الأغلبية والأقلية.
وترتبط القاعدة الثانية بالوعي بأن الخلاف بشأن هذه القضايا سيبقى مزمناً. ولن تُحسم تقاطبات من هذا النوع بقانون، ولن تُطوى بمجرد قرارات حكومية وسياسية، إنها خلافات تُدبر ولا تُحسم، إذ لن ينهي إقرار نصٍ يحذف عقوبة الإعدام الأصوات المطالبة ببقائه، وينسحب الأمر نفسه، بالضرورة، على مسألة تقنين الإجهاض.
تتعلق القاعدة الثالثة بإخراج هذه النقاشات، ما أمكن، من مربع المواقف الإيديولوجية. وهنا، قد يكون توسيع طاولة الحوار، لتشمل أصوات العلم والخبرة، إحدى وسائل تخفيف الطابع الإيديولوجي عن الحوار العمومي المتعلق بهذه "التوترات" المجتمعية. في مثل هذه المسائل، حُجج الطبيب والسوسيولوجي والخبير النفسي أهم بكثير من القناعات الإيديولوجية لباقي الأطراف.
على أن لأقوى مسلكٍ لتدبير التوترات المجتمعية علاقة بطبيعة التمفصل الذي يصنعه الفاعلون في خطاباتهم وممارستهم بين هذه التوترات والتدافع من أجل الديمقراطية. وتأجيل سؤال الديمقراطية، بدعوى أولوية حسم القضايا المجتمعية الخلافية، لن يعني، في النهاية، سوى التضحية بالديمقراطية بمبرر الانجرار وراء وهم "الحداثة"، ولن يعني، في نهاية التحليل، سوى عودة السلطوية التي تعتبر موضوعياً، من الناحيتين، الثقافية والاجتماعية، نقيضاً لكلٍ من الديمقراطية و"الحداثة".
تبقى لعبة الحداثة ضد الديمقراطية صناعة سلطوية بامتياز، ولدى الديمقراطيين، اليوم، من ليبراليين وإسلاميين ويساريين، ما يكفي من الذاكرة لاستعادة مشاريع التجارب السياسية الفاشلة التي حوربت فيها الديمقراطية والتعددية والحزبية، بدعوى مركزية السلطة وأولوية الدولة وطلائعية النخبة، في قيادة التحول التحديثي، وهي تجارب فشلت في الديمقراطية وتحديث المجتمعات.
لا يعني الوعي بمخاطر تدبير سؤالي الديمقراطية والحداثة، بالضرورة، أن على القوى التقدمية أن تُدخل مشروعها في التحديث المجتمعي والثقافي في كُمونٍ تكتيكي، بل هي، على العكس، مُطالبةٌ باستعادة المبادرة الثقافية، وبمرافقه التحولات المجتمعية في اتجاه دعم المواطنة والحرية، وهي، بكلمة تبدو خارجة من المعجم القديم، مدعوة لخوض الصراع الإيديولوجي في واجهاته الأساسية. لكن، على أساس ألّا يصبح هذا الصراع محدداً لبوصلة تدبير الحقل السياسي الذي لا تبدو اليوم حلقته المركزية، في هذا المرحلة، مطابقة للتوتر الهوياتي، بأشكاله المتعددة: محافظون /حداثيون، إسلاميون/علمانيون.
التقدم خطوات صغيرة في الديمقراطية يعني تسجيل انتصارات مؤكدة في المسار المعقد للحداثة، والمؤكد كذلك أن تملك التحولات السياسية والديمقراطية يقتضي إسنادها ثقافياً وفكرياً، حتى لا تظل أسيرة الإجراءات والمساطر وحبيسة للمستويات الفوقية للسياسة. وهنا، يمكن أن تتحالف الديمقراطية والحداثة لإنجاز التحولات التاريخية المرجوة، ويمكن للإسلاميين والعلمانيين الانتقال من الديمقراطية إلى الحداثة، عوض الرهان على الأكذوبة الكبرى السلطوية: أن ننتقل من الحداثة إلى الديمقراطية.