الحداثة العربية من الطهطاوي إلى البغدادي

15 يوليو 2014

رفاعة الطهطاوي وأبو بكر البغدادي

+ الخط -

سقط مشروع النهضة العربية على أنصال ومؤامرات السياسة الراهنة في المنطقة. ويبدو جلياً أن كل ما تم إنجازه، طيلة القرن الماضي، من نهضةٍ فكريةٍ وتعليميةٍ وثقافيةٍ، يجري، الآن، الإجهاز عليها وتحطيمها. فحركة النهضة التي قادها آباء التنوير، أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، ومن بعدهم محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، انتهت بالعرب إلى واقعٍ سرمدي بائس، نجومه الحاليون هم البغدادي في المشرق العربي، وعبد الفتاح السيسي في مصر، وخليفة حفتر في ليبيا.

وقد أفضى عصر "التنوير" العربي الذي قاده رواد الفكر والنضال الوطني في مختلف البقاع إلى عصر من "الظلام" الفكري والسياسي الدامس، يقوده جيل "أحمق" من العسكر والمتطرفين وأنصاف المتعلمين الذين يفتقدون أي معنى أو مضمون. بينما تبدو المجتمعات العربية منقسمة على ذاتها، وغارقة في صراعات الدين والهوية والطائفية التي تبدو أنها ستبتلع المنطقة، وتقلبها رأسا على عقب، فترة ليست قصيرة. فلم تعد "الدولة" مركز السلطة والحركة، وإنما تزاحمها في ذلك نسخة جديدة من الطوائف والقبائل والجماعات والحركات التي لا تعترف بولاية هذه الدولة، وتريد أن تقاسمها السلطة والولاء والتأثير.

الأكثر من ذلك، وصل الصراع العربي-العربي والحرب بالوكالة إلى نقطةٍ، تتجاوز أية صراعات إقليمية أخرى (عربي-إسرائيلي، خليجي-إيراني، عربي-تركي). ولننظر فقط إلى العراق أو سورية، لكي نرى كيف يتصارع العرب، ويتقاتلون في حرب "عبثية" طاحنة، تقف خلفها أجهزة استخباراتية، وتنفق عليها مليارات الدولارات. أو لنلق نظرة على ما يحدث في مصر وليبيا واليمن، لكي ندرك حجم الانقسام في العالم العربي، والذي سوف يفضي حتماً إلى مزيد من التشرذم والتفكك والانهيار.

انتهت "الدولة" العربية، بصيغتها التقليدية القديمة التي كانت تقوم على "القمع مقابل الصمت"، و"الخبز مقابل الحرية"، وبتنا إزاء صياغةٍ جديدةٍ، آخذة في التبلور، تسعى إلى تغيير منطق الدولة "الأبوية" والحكومة "الرعوية" وإشراك جماعات ما "دون الدولة"، ولو

بالقوة، كي تصبح طرفا فاعلا في هذه المعادلة الجديدة.


زمن الحداثة العربية وصل إلى طريق مسدود. فهل كان جمال الدين الأفغاني أو محمد عبده يتخيلان أن يصل "المشروع الإسلامي" إلى عتبة شخصٍ مخبولٍ، يرتدي زيا قروسطياً، وينصب نفسه "خليفة" داعشياً، ويطالب الناس طوعاً وكرهاً بمبايعته؟ وهل كان يتوقع ساطع الحصري وميشيل عفلق أن يتحول "المشروع القومي العربي" إلى مجرد "شال" أو "كوفية"، لا تمنع عدواً، ولا تقيم دولةً، بينما يتواطأ بعضهم مع هذا العدو ضد أبناء العروبة؟ وهل كان يتخيل مصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس أن يتحول "المشروع الوطني" إلى نزعة فاشستية وشوفينية، يمارسها "جنرال" حالم، لا يعرف الفرق بين "الدولة الوطنية" و"الدولة البوليسية"؟ وهل كان لمثقفي النهضة الأوائل وروادها أن يتخيلوا أن يصل بنا الحال إلى نخب "بهلوانية"، فاشلة سياسياً وأخلاقياً؟

الآن، لم يتبق من "فكرة" الدولة العربية سوى السلطة، ولم يتبق من هذه السلطة سوى رائحة الدم، ولم يتبق من الثقافة العربية سوى "شعارات" فارغة المعنى، وكلمات زائفة، ومزايدات يمارسها هذا الطرف أو ذاك. بينما تدفع المجتمعات العربية ثمناً باهظاً من حاضرها ومستقبل أبنائها. انظر حولك، سترى عشرات الآلاف من الشباب والشيوخ، والرجال والنساء، والأطفال العرب بين معتقل، ومقتول، ومهجر، ومطارد. وارفع عينيك، ستجد صواريخ تقتل، وقنابل تحرق، وبراميل تفجر، ورصاصاً يدمر. انقلبت الموازين والمعادلات والحسابات. فالعدو بات صديقاً، والقريب أصبح غريباً، وطلب العون والمساعدة بات استجداءً. فها هي غزة تقصف وتدمر تحت سمع العرب وبصرهم، من دون أن يتحرك لقادتهم جفن، أو ينتفض فيهم عرق. بعضهم صامت، والآخر متواطئ، والثالث متآمر. تدعمهم في ذلك نخبة فقدت دورها ووظيفتها التاريخية، وباتت أقرب لحاشية مأجورة، لا تقوى على معارضة من يرعاها ويحميها. ويروج لهم إعلام "ساقط"، يغطي فشلهم، ويبرر صمتهم وتخاذلهم.

ما يحدث، الآن، في العالم العربي، من شرقه إلى غربه، واقع بائس، يكتب نهاية مأساوية "للمشروع النهضوي" العربي الذي بدأ قبل قرن ونيف. وينهي أسطورة "الحداثة العربية" التي تبدو، الآن، كما لو كانت سراباً ووهماً كبيراً، أفضى إلى دول هشة، ومجتمعات منقسمة، ونخب مهترئة. وفضلاً عن الانفجار الهوياتي والطائفي الذي يعصف بالمنطقة، فبالنسبة لكثيرين، فإن قطار التغيير السلمي قد وصل إلى حائط مسدود، تتنازعه رغبات يائسة في الثورة، وأخرى تدعو إلى الانتقام والانتحار، وثالثة تنتظر الانفجار.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".