عرفت دول البلقان تاريخياً نوعين من الحج: الحج المسيحي إلى الأماكن المقدسة في فلسطين، ثم الحج الإسلامي إلى المشاعر المقدسة في الحجاز، وكلاهما دأب على إثارة اهتمام المؤرخين ومتابعتهم، سواء منهم المعنيون بالتاريخ الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي. لقد كان الحج وما زال يمثل أبعادا مكثفة لجوانب دينية وثقافية انعكست في التعارف بين الشعوب المختلفة على طول الطريق الطويل لقوافل الحج، وانعكست أيضا في تدوين الكثير من الحجاج لرحلاتهم التي تعتبر من المراجع القيّمة عن أوضاع البلدان وثقافات الشعوب المختلفة (انظر زاوية "أقواس" لعدنان ياسين عن "حجاز المغاربة"، في صفحة 9 من هذا الملحق - المحرر).
في هذا الإطار يأتي كتاب "الحج من البوسنة خلال الحكم العثماني" للباحث في معهد الدراسات الشرقية في سراييفو، علاء الدين هوسيتش، الذي يعتبر أول دراسة علمية شاملة عن هذا الموضوع بعد المقالات والكتابات التي تناولت الحج من جوانب مختلفة خلال العقود الماضية. وتأتي القيمة الملفتة لهذا الكتاب بسبب تنوع المصادر التي اعتمد عليها المؤلف كالأرشيف العثماني وأرشيف البندقية وأرشيف دوبروفنيك والمصادر المحلية (مثل سجلات المحاكم الشرعية والوقفيات والمخطوطات التي تتضمن كتب الرحلات).
أهمية هذا الكتاب تكمن في تقديمه ما يمكن أن نسميه "ثقافة وسوسيولوجيا الحج" التي تشمل هنا كل ما يتعلق بالحج، ليس فقط الطقوس الدينية والاستعداد لها، بل وأيضا كل ما يرافقه من أنشطة اقتصادية وتجارية واجتماعية، ثم التعريج على كتابات تتعلق بالحج ووصف الطريق إليه، ومكانة الحجاج العائدين في المجتمع وغير ذلك.
فنظرا لأن الحج أحد أركان الإسلام الذي جاء إلى المنطقة بواسطة العثمانيين، فقد كان من الطبيعي أن يبدأ المؤلف بتتبّع الفتح العثماني للبوسنة بحدودها الحالية، والذي استمر نحو قرنين من الزمن. وبشكل أكثر تحديدا يمكن تأريخ تلك البداية بالهجمات العثمانية الأولى على الهرسك في عام 1386، وصولاً إلى سقوط مدينة بيهاتش وجوارها عام 1592. وفي هذا السياق أقام العثمانيون خلال 1448-1451 جيباً في خاصرة البوسنة من جهة الشرق، حيث نشأت مدينة سراييفو التي سيكون لها شأن في ما يتعلق بالحج لاحقا، قبل أن يقوم السلطان العثماني محمد الثاني بفتح معظم البوسنة في 1463، بينما ترك لغيره استكمال هذا الفتح حتى 1592.
ومع الحكم العثماني أخذ الإسلام بالانتشار في صفوف السكان، وفي النصف الثاني للقرن السادس عشر أصبحت نسبة المسلمين تتراوح بين ألوية أو سناجق البوسنة من 60% إلى 82%، وذلك بحسب الخلفية الدينية السابقة. ويلاحظ المؤلف هنا أنه حيثما كانت الكنيسة البوسنية (البوغوميلية) منتشرة، كانت نسبة اعتناق الإسلام تتراوح بين 90%-100%، بينما كانت النسبة أقل من ذلك في المناطق التي تنتشر فيها الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية.
ومع انتشار الإسلام وظهور المؤسسات المرتبطة به (الجوامع والمدارس والأوقاف والتكايا) تظهر الآن أولى الوثائق التي تبيّن وجود شخصيات تحمل لقب "الحاج" التي تدلّ على أوائل المسلمين الذين قاموا بأداء هذا الركن، كما هو الأمر في وقفية حاكم البوسنة أياس بك من عام 1477 التي يظهر ضمن الشهود في أسفلها "الحاج حسين بن الحاج أحمد" و"الحاج أحمد بن يعقوب". وبالاستناد الى دفاتر التحرير العثمانية التي تحصي عدد السكان في كل محلة، أمكن للمؤلف أن يجد في محلات سراييفو عام 1530، 36 شخصاً يحملون لقب "حاج". ومع توثيق هذه البدايات أصبح من السهل للمؤلف أن يتتبع في المصادر اللاحقة تنامي عدد الحجاج في المجتمع البوسني مع تزايد انشار الإسلام وعدد المسلمين هناك.
يخصص الباحث الفصل الثالث للكتاب لما كان يتطور وينتج حول وفي فضاء "عملية الحج" من تفاعلات اقتصادية واجتماعية. فمثلاً يصف لنا وقفية كيوان الكتخدا التي يعود تاريخها إلى عام 1554 والتي برزت معها ظاهرة "حج البدل"، وهو قيام شخص بالحج بدلا عن آخر لا يستطيع أن يحج بنفسه أو بعد وفاته، لتكون الحجة على روحه. والمهم هنا أن الوقفية تحدد نفقة الحج بمبلغ 3000 درهم فضي (أقجه) أخذا بعين الاعتبار أن الحج كان يستغرق نحو ثمانية أشهر في الذهاب والإياب مع ما يتطلبه ذلك من نفقات مختلفة. ويتتبّع المؤلف هنا تزايد المبلغ المخصّص للحج، أخذا بعين الاعتبار التضخم الذي ضرب الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، وما رافقه من تغيّر للعملة. ففي عام 1794 نجد أن أحدهم يحدد 1050 قرشا لنفقات الحج، في حين أنه في منتصف القرن التاسع عشر ارتفعت نفقة الحج إلى 6 آلاف قرش، وهو ما كان يساوي يومها ثمن 42 رأسا من البقر. وبعبارة أخرى يبدو أن الحج كان متاحا فقط للشريحة العليا والمتوسطة في المجتمع (التجار وعلماء الدين)، فيما "حج البدل" كان هو المتوفر للشريحة الدنيا.
يقدم لنا الفصل الرابع حول "تحديات ومعاناة السفر على الطرق" معطيات قيّمة عن خطوط الطرق والجغرافيا التي كان يسلكها البوسنيون للوصول إلى المشاعر المقدسة، والوقت الذي كان يحتاجه الحجاج. وتعود أول معلومة في هذا السياق إلى عام 1557، وتقول إن الطريق إلى الحج كان يستغرق ذهابا وإيابا نحو ثمانية أشهر، في حين تعدّدت لاحقا طرق السفر التي جمعت بين البر والبحر. فمن شرق البوسنة كان الراغبون في الحج يجتمعون في سراييفو وينطلقون في يوم محدد نحو استانبول ومنها إلى حلب ودمشق، ليلتحقوا بقافلة الحج الشامي عبر شرق الأردن أو عبر فلسطين إلى الحجاز. أما الراغبون في الحج من جنوب البوسنة، فقد كانوا يتوجهون إلى سالونيك في اليونان، ومنها إلى الإسكندرية بواسطة البحر ثم إلى القاهرة للالتحاق بقافلة الحج المصري. أما من غرب البوسنة فقد كان الحجاج يفضلون الطريق إلى جمهورية دوبروفنيك (راغوصة) التي كانت تشتهر بأسطولها الكبير في المتوسط، ومنها إلى الإسكندرية ثم إلى القاهرة. وفي أحيان كثيرة كانت فترة الحج تطول بحكم ظروف السفر وفترة البقاء في مكة والمدينة، فقد كان بعض الحجاج يعمد إلى تمديد إقامته سواء للتجارة أو لمجاورة الأماكن المقدسة.
يتوقف المؤلف في الفصل الخامس، "الوضع الاقتصادي - الاجتماعي للحجاج"، عند دور الحج والحجاج في الاقتصاد والمجتمع. فمع تحليله لما ورد في حوليات المؤرخ البوسني باشسقي عن 230 شخصا يحملون لقب "الحاج" تبيّن له أن 34% منهم كانوا من التجار. ولإثبات ذلك يعود الى سجلات القسمة أو التركات التي تكشف عن ثرواتهم بعد موتهم. وهكذا فمن أصل 187 حالة موثقة يتضح لنا أن 31% منهم كانوا من "أصحاب الملايين"، أي ممن تجاوزت ثروتهم المنقولة أو غير المنقولة مليون درهم فضي. وبالاستناد الى ذلك يحلل المؤلف دور من يحملون لقب "الحاج" في الاقتصاد والمجتمع البوسني، فهؤلاء كانوا يذهبون إلى الحج مع مبالغ كبيرة (300 ألف أقجة) ويعودون من الحجاز مع بضائع شرقية المنشأ لبيعها في أسواق البوسنة.
وأخيرا يعرّفنا الفصل الأخير "ثقافة الحج" إلى الجانب الثقافي للحج من البوسنة، والمقصود به هنا دور الحج في تشكيل ثقافة المجتمع. فقد شكّل الحج مناسبة لشراء المخطوطات المختلفة في المراكز التي كان يمر بها الحجاج (مثل استانبول وحلب ودمشق والقدس والقاهرة) والتي كانت تنتهي إلى المكتبات الخاصة أو شبه العامة عن طريق الوقف. وبفضل هذا لا يعد من المستغرب أن تكون البوسنة من أغنى بلدان البلقان بالمخطوطات العربية. وفي هذا السياق يقدم المؤلف معطيات قيمة حول مجالات العلوم اللغوية والدينية والإنسانية التي كانت تحتويها المخطوطات الواردة إلى البوسنة من تلك المراكز وأثمانها، إذ إن بعض الحجاج كان يحرص على ذكر ثمن ما يشتريه. فعلى سبيل المثال، يذكر أن أحد الحجاج اشترى نسخة من القرآن مقابل 12 ألف درهم فضي، بينما اشترى كتاب "درر الغرر" في الفقه الحنفي مقابل 18.400 درهم فضي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الحجاج من "العلماء" كانوا يستغلون توقفهم في منازل طريق الحج لنسخ المخطوطات. ومن ذلك لدينا الحاج مصطفى الذي قام خلال وجوده في أحد منازل طريق الحج في الحجاز (قلعة عنزة) بنسخ مخطوطة "الرد على فتاوى ابن كمال في تنزيه ابن عربي".
ومع تقدير ما قام به المؤلف من جهد كبير لإبراز هذه الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للحج، فقد كان من الضروري أن يكمل المؤلف عمله في ما يتعلق بالجانب الثقافي للحج، ويخصّص فصلا آخر عن الحجاج البوسنيين الذين دونوا رحلتهم نظرا لما تتمتع به كتب الرحلة من قيمة مرجعية عن أوضاع وثقافة البلدان التي يمرّ بها الحجاج، مع أنه كان يستخدم بعض رحلات الحج كمصادر للإشارة إلى الأمور التي تناولها في الفصول السابقة.
(أكاديمي كوسوفي/سوري)
حنا يعقوب أنقذه حجيج الهرسك
في رائعة ربيع جابر "دروز بلغراد" (2010) يجد حنا يعقوب الشاب المسيحي نفسه منفيا (بالخطأ اللئيم) مع عدة مئات من الدروز الذين نفاهم الحاكم العثماني من جبل لبنان عام 1860، عقابا على أفعالهم في الحرب الأهلية مع المسيحيين آنذاك. قضى حنا يعقوب اثني عشر عاما في العذاب والنفي والسجون والجوع مشردا على حواف الموت، ملتاعاً على زوجته الشابة هيلانة وابنته الوليدة بربارة. لم يكن يعلم إن كان سيعود يوماً ما. وحصلت المعجزة! رأى الناس يتأهبون للحج في الرحلة السنوية التي ستمر في بلدان عديدة، ثم في تركيا، ومنها إلى حلب فدمشق. التحق يعقوب بالقافلة وصار يصلي صلاة المسلمين أسابيع طويلة. كان يعد الساعات والأيام إلى أن وصلت القافلة أخيرا إلى دمشق. هناك انفصل عنها وركض إلى بيروت. هرول إلى بيته البسيط، وهاله أن يرى هيلانة تجلس على عتبة البيت صبية وجميلة كما تركها. شعر بالرعب إذ ظن أنه يحلم وما زال في النفي. إذ كيف لا تكبر هيلانة بعد كل هذه السنين؟ انهار بالبكاء عندما أدرك أن الصبية اليافعة التي يراها على عتبة الباب هي بربارة ابنته، فيما كانت هيلانة في الداخل تربت على شعر وردة وتدندن بالأمل وبعودة حنا.
في هذا الإطار يأتي كتاب "الحج من البوسنة خلال الحكم العثماني" للباحث في معهد الدراسات الشرقية في سراييفو، علاء الدين هوسيتش، الذي يعتبر أول دراسة علمية شاملة عن هذا الموضوع بعد المقالات والكتابات التي تناولت الحج من جوانب مختلفة خلال العقود الماضية. وتأتي القيمة الملفتة لهذا الكتاب بسبب تنوع المصادر التي اعتمد عليها المؤلف كالأرشيف العثماني وأرشيف البندقية وأرشيف دوبروفنيك والمصادر المحلية (مثل سجلات المحاكم الشرعية والوقفيات والمخطوطات التي تتضمن كتب الرحلات).
أهمية هذا الكتاب تكمن في تقديمه ما يمكن أن نسميه "ثقافة وسوسيولوجيا الحج" التي تشمل هنا كل ما يتعلق بالحج، ليس فقط الطقوس الدينية والاستعداد لها، بل وأيضا كل ما يرافقه من أنشطة اقتصادية وتجارية واجتماعية، ثم التعريج على كتابات تتعلق بالحج ووصف الطريق إليه، ومكانة الحجاج العائدين في المجتمع وغير ذلك.
فنظرا لأن الحج أحد أركان الإسلام الذي جاء إلى المنطقة بواسطة العثمانيين، فقد كان من الطبيعي أن يبدأ المؤلف بتتبّع الفتح العثماني للبوسنة بحدودها الحالية، والذي استمر نحو قرنين من الزمن. وبشكل أكثر تحديدا يمكن تأريخ تلك البداية بالهجمات العثمانية الأولى على الهرسك في عام 1386، وصولاً إلى سقوط مدينة بيهاتش وجوارها عام 1592. وفي هذا السياق أقام العثمانيون خلال 1448-1451 جيباً في خاصرة البوسنة من جهة الشرق، حيث نشأت مدينة سراييفو التي سيكون لها شأن في ما يتعلق بالحج لاحقا، قبل أن يقوم السلطان العثماني محمد الثاني بفتح معظم البوسنة في 1463، بينما ترك لغيره استكمال هذا الفتح حتى 1592.
ومع الحكم العثماني أخذ الإسلام بالانتشار في صفوف السكان، وفي النصف الثاني للقرن السادس عشر أصبحت نسبة المسلمين تتراوح بين ألوية أو سناجق البوسنة من 60% إلى 82%، وذلك بحسب الخلفية الدينية السابقة. ويلاحظ المؤلف هنا أنه حيثما كانت الكنيسة البوسنية (البوغوميلية) منتشرة، كانت نسبة اعتناق الإسلام تتراوح بين 90%-100%، بينما كانت النسبة أقل من ذلك في المناطق التي تنتشر فيها الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية.
ومع انتشار الإسلام وظهور المؤسسات المرتبطة به (الجوامع والمدارس والأوقاف والتكايا) تظهر الآن أولى الوثائق التي تبيّن وجود شخصيات تحمل لقب "الحاج" التي تدلّ على أوائل المسلمين الذين قاموا بأداء هذا الركن، كما هو الأمر في وقفية حاكم البوسنة أياس بك من عام 1477 التي يظهر ضمن الشهود في أسفلها "الحاج حسين بن الحاج أحمد" و"الحاج أحمد بن يعقوب". وبالاستناد الى دفاتر التحرير العثمانية التي تحصي عدد السكان في كل محلة، أمكن للمؤلف أن يجد في محلات سراييفو عام 1530، 36 شخصاً يحملون لقب "حاج". ومع توثيق هذه البدايات أصبح من السهل للمؤلف أن يتتبع في المصادر اللاحقة تنامي عدد الحجاج في المجتمع البوسني مع تزايد انشار الإسلام وعدد المسلمين هناك.
يخصص الباحث الفصل الثالث للكتاب لما كان يتطور وينتج حول وفي فضاء "عملية الحج" من تفاعلات اقتصادية واجتماعية. فمثلاً يصف لنا وقفية كيوان الكتخدا التي يعود تاريخها إلى عام 1554 والتي برزت معها ظاهرة "حج البدل"، وهو قيام شخص بالحج بدلا عن آخر لا يستطيع أن يحج بنفسه أو بعد وفاته، لتكون الحجة على روحه. والمهم هنا أن الوقفية تحدد نفقة الحج بمبلغ 3000 درهم فضي (أقجه) أخذا بعين الاعتبار أن الحج كان يستغرق نحو ثمانية أشهر في الذهاب والإياب مع ما يتطلبه ذلك من نفقات مختلفة. ويتتبّع المؤلف هنا تزايد المبلغ المخصّص للحج، أخذا بعين الاعتبار التضخم الذي ضرب الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، وما رافقه من تغيّر للعملة. ففي عام 1794 نجد أن أحدهم يحدد 1050 قرشا لنفقات الحج، في حين أنه في منتصف القرن التاسع عشر ارتفعت نفقة الحج إلى 6 آلاف قرش، وهو ما كان يساوي يومها ثمن 42 رأسا من البقر. وبعبارة أخرى يبدو أن الحج كان متاحا فقط للشريحة العليا والمتوسطة في المجتمع (التجار وعلماء الدين)، فيما "حج البدل" كان هو المتوفر للشريحة الدنيا.
يقدم لنا الفصل الرابع حول "تحديات ومعاناة السفر على الطرق" معطيات قيّمة عن خطوط الطرق والجغرافيا التي كان يسلكها البوسنيون للوصول إلى المشاعر المقدسة، والوقت الذي كان يحتاجه الحجاج. وتعود أول معلومة في هذا السياق إلى عام 1557، وتقول إن الطريق إلى الحج كان يستغرق ذهابا وإيابا نحو ثمانية أشهر، في حين تعدّدت لاحقا طرق السفر التي جمعت بين البر والبحر. فمن شرق البوسنة كان الراغبون في الحج يجتمعون في سراييفو وينطلقون في يوم محدد نحو استانبول ومنها إلى حلب ودمشق، ليلتحقوا بقافلة الحج الشامي عبر شرق الأردن أو عبر فلسطين إلى الحجاز. أما الراغبون في الحج من جنوب البوسنة، فقد كانوا يتوجهون إلى سالونيك في اليونان، ومنها إلى الإسكندرية بواسطة البحر ثم إلى القاهرة للالتحاق بقافلة الحج المصري. أما من غرب البوسنة فقد كان الحجاج يفضلون الطريق إلى جمهورية دوبروفنيك (راغوصة) التي كانت تشتهر بأسطولها الكبير في المتوسط، ومنها إلى الإسكندرية ثم إلى القاهرة. وفي أحيان كثيرة كانت فترة الحج تطول بحكم ظروف السفر وفترة البقاء في مكة والمدينة، فقد كان بعض الحجاج يعمد إلى تمديد إقامته سواء للتجارة أو لمجاورة الأماكن المقدسة.
يتوقف المؤلف في الفصل الخامس، "الوضع الاقتصادي - الاجتماعي للحجاج"، عند دور الحج والحجاج في الاقتصاد والمجتمع. فمع تحليله لما ورد في حوليات المؤرخ البوسني باشسقي عن 230 شخصا يحملون لقب "الحاج" تبيّن له أن 34% منهم كانوا من التجار. ولإثبات ذلك يعود الى سجلات القسمة أو التركات التي تكشف عن ثرواتهم بعد موتهم. وهكذا فمن أصل 187 حالة موثقة يتضح لنا أن 31% منهم كانوا من "أصحاب الملايين"، أي ممن تجاوزت ثروتهم المنقولة أو غير المنقولة مليون درهم فضي. وبالاستناد الى ذلك يحلل المؤلف دور من يحملون لقب "الحاج" في الاقتصاد والمجتمع البوسني، فهؤلاء كانوا يذهبون إلى الحج مع مبالغ كبيرة (300 ألف أقجة) ويعودون من الحجاز مع بضائع شرقية المنشأ لبيعها في أسواق البوسنة.
وأخيرا يعرّفنا الفصل الأخير "ثقافة الحج" إلى الجانب الثقافي للحج من البوسنة، والمقصود به هنا دور الحج في تشكيل ثقافة المجتمع. فقد شكّل الحج مناسبة لشراء المخطوطات المختلفة في المراكز التي كان يمر بها الحجاج (مثل استانبول وحلب ودمشق والقدس والقاهرة) والتي كانت تنتهي إلى المكتبات الخاصة أو شبه العامة عن طريق الوقف. وبفضل هذا لا يعد من المستغرب أن تكون البوسنة من أغنى بلدان البلقان بالمخطوطات العربية. وفي هذا السياق يقدم المؤلف معطيات قيمة حول مجالات العلوم اللغوية والدينية والإنسانية التي كانت تحتويها المخطوطات الواردة إلى البوسنة من تلك المراكز وأثمانها، إذ إن بعض الحجاج كان يحرص على ذكر ثمن ما يشتريه. فعلى سبيل المثال، يذكر أن أحد الحجاج اشترى نسخة من القرآن مقابل 12 ألف درهم فضي، بينما اشترى كتاب "درر الغرر" في الفقه الحنفي مقابل 18.400 درهم فضي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الحجاج من "العلماء" كانوا يستغلون توقفهم في منازل طريق الحج لنسخ المخطوطات. ومن ذلك لدينا الحاج مصطفى الذي قام خلال وجوده في أحد منازل طريق الحج في الحجاز (قلعة عنزة) بنسخ مخطوطة "الرد على فتاوى ابن كمال في تنزيه ابن عربي".
ومع تقدير ما قام به المؤلف من جهد كبير لإبراز هذه الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للحج، فقد كان من الضروري أن يكمل المؤلف عمله في ما يتعلق بالجانب الثقافي للحج، ويخصّص فصلا آخر عن الحجاج البوسنيين الذين دونوا رحلتهم نظرا لما تتمتع به كتب الرحلة من قيمة مرجعية عن أوضاع وثقافة البلدان التي يمرّ بها الحجاج، مع أنه كان يستخدم بعض رحلات الحج كمصادر للإشارة إلى الأمور التي تناولها في الفصول السابقة.
(أكاديمي كوسوفي/سوري)
حنا يعقوب أنقذه حجيج الهرسك
في رائعة ربيع جابر "دروز بلغراد" (2010) يجد حنا يعقوب الشاب المسيحي نفسه منفيا (بالخطأ اللئيم) مع عدة مئات من الدروز الذين نفاهم الحاكم العثماني من جبل لبنان عام 1860، عقابا على أفعالهم في الحرب الأهلية مع المسيحيين آنذاك. قضى حنا يعقوب اثني عشر عاما في العذاب والنفي والسجون والجوع مشردا على حواف الموت، ملتاعاً على زوجته الشابة هيلانة وابنته الوليدة بربارة. لم يكن يعلم إن كان سيعود يوماً ما. وحصلت المعجزة! رأى الناس يتأهبون للحج في الرحلة السنوية التي ستمر في بلدان عديدة، ثم في تركيا، ومنها إلى حلب فدمشق. التحق يعقوب بالقافلة وصار يصلي صلاة المسلمين أسابيع طويلة. كان يعد الساعات والأيام إلى أن وصلت القافلة أخيرا إلى دمشق. هناك انفصل عنها وركض إلى بيروت. هرول إلى بيته البسيط، وهاله أن يرى هيلانة تجلس على عتبة البيت صبية وجميلة كما تركها. شعر بالرعب إذ ظن أنه يحلم وما زال في النفي. إذ كيف لا تكبر هيلانة بعد كل هذه السنين؟ انهار بالبكاء عندما أدرك أن الصبية اليافعة التي يراها على عتبة الباب هي بربارة ابنته، فيما كانت هيلانة في الداخل تربت على شعر وردة وتدندن بالأمل وبعودة حنا.