الحب فوق شجرة التين

02 اغسطس 2017

(Getty)

+ الخط -
قبل شروق الشمس، المتزامن مع زقزقة العصافير فوق شجرة التين العجوز في باحة ذلك البيت الذي لم يفارق خيالي، على الرغم من فراقه ورحيل أهله، كنت أتسلق الشجرة بخفّة الفهود، وحذر القطط؛ لكي ألتقط حبة تين ساخنة، و"مزدانة" بقطراتٍ من ندى الصباح، وتكون حبةً غير كاملة، فقد التقطت منها العصافير نصفها أو أقل أو أكثر، ولكن ذلك لم يكن يهمّني، فالمهم أن يكون ذلك الطعم المحبب والخاص أول ما أتذوّقه في تلك الصباحات الصيفية البعيدة.
في تلك الأيام، يكتشف الجميع أن أجمل ما في موسم التين هو ما يسرق، وألذّه ما يُغسل بالندى، وأكثر من يكتشف ذلك هم الأطفال الذين يفعلون مثلما أفعل، فالحبّات الناضجة تكون على أفرع بعيدة، تجلس مثل أمير صغير مستهتر، تسخر منا ومن عجزنا، وبأننا ننظر إليها بـ "قلة حيلة"، خصوصا حين ينهرنا الكبار بألا نتسلق الأفرع كثيراً وبعيداً عن الأرض؛ لكي لا يقع أحدنا عنها نحو الأرض المبلطة ببلاطٍ شاميٍّ مهشّم الحواف، وكانوا يتوعدون من يقع منا بزيارة إجبارية للعم أبو حسين، الذي يقوم بتجبير الكسور، بطريقة بدائية مؤلمة، ولكنها ناجعة؛ فهو يكسر العضو الذي لم يكتمل كسره بالأساس، ويكون قد أصيب بما يُعرف بـ"الشعر"، لكنه يكسره لكي يضم طرفيه بطريقة صحيحة، ثم يضع فوقه الجبائر محلية الصنع، واللبخات التي يدّعي أنها تسكّن الألم، ولكن صراخ المكسور يكون قد أيقظ النائمين في الحارة السابعة، بعيداً عن بيته الذي يؤمّه الناس من شتى المناطق.
باتت زيارة هذا الرجل كابوساً ينغص عليّ مغامرة تسلق الشجرة، ولكن حب الثمار التي سخنت قليلاً من أشعة الشمس الفجريّة كان يطغى على كل التخيّلات المرعبة، فأنسلّ من فراشي الأرضي، وأتسلل من فوق رأسي الجدّين العجوزين؛ لكي أعتلي الشجرة، وأظفر ببقايا حبات التين فوق الأغصان البعيدة عن الأرض، والقريبة من السماء.
لم أكن أعرف السر في الشجرة التي تبات لا تقوى على الوقوف من كثرة الثمار الناضجة، والتي تتدلى على جوانبها. وحين أستيقظ باكراً، قبل الجميع، حسبما كنت أعتقد، أجدها خاويةً ككف يدي الخاوية من الشعر، ولم يبق على أغصانها سوى الحبّات التي أغارت عليها العصافير قبلي، حتى عرفت السر؛ وهو أن الجد العجوز يستيقظ قبلي بوقت طويل، ويجمع الثمار ويكدّسها بعنايةٍ في علبٍ من الكرتون، يأخذها من البقال المجاور للبيت، ثم يحملها ليبيعها للمصلين أمام المسجد، بعد خروجهم من صلاة الفجر، وقد ظل هذا الأمر خفياً عليّ، فيما تحدثت الجدّة كثيراً عن العفاريت والأشباح التي تغزو الشجرة ليلاً، فتنهب الثمار، وتبتعد عن الثمار التي هاجمتها العصافير، وشوّهت منظرها.
اكتشفت أن الجد العجوز يبيعها حين جاءت جارة لزيارة جدّتي العجوز، فانشقت الأرض، وبـ "قدرة قادر"، عن حباتٍ ناضجةٍ تشبه أنثى فائرة الأنوثة، مرصوصة في طبقٍ من الخزف الصيني، المرسوم الأطراف. وسمعت الجارة الطيبة تبدي حزنها لأن جدتي استبقت هذا الطبق، ولم تسمح لجدّي ببيعه، لكي يسترزقا من ثمنه مع باقي خيرات الشجرة.
أحزنتني الحقيقة، ولكنني نسيت الأمر تماماً، حين أصبح ابن خالتي يشاركني المغامرة وتسلق الشجرة العجوز، وكان يرجو أمه لكي يقضي ليلةً في بيت الجدّين، فيما كنت دائمة البقاء في بيتهما؛ لأني بنتٌ تستطيع مساعدة الجدة في أعمال البيت، أما هو فسيكون فماً مفتوحاً أمام زاد قليل.
أصبحنا، أنا وابن خالتي، فوق أحد الأغصان المرتفعة، فالتقط كل واحدٍ منا حبة تين بفمه، والتهمناهما سريعاً، والتمعت عيوننا بظفر، وغافلني الفتى الغرير بقبلةٍ سريعةٍ فوق شفتيّ، فأسرعت بالنزول، وصورة الرجل الذي يجبر الكسور ماثلة أمامي، فكنت أتوقع أني سأصاب بكسرٍ لا محالة، وكانت آثار القبلة على طرف فمي، وقلبي يرتجف بين ضلوعي، وكلمات بعيدة تطرق أذنيّ عن العيب والحرام، وبأن القبلة أول طريق الموبقات، ولكني وصلت إلى الأرض بسلام.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.