في تونس، عاد الحديث مجدداً عن مؤسسة الجيش، وعن دورها وموقعها في عملية الانتقال السياسي المستمرة في البلاد، وحماية هذه التجربة من الفشل. وما جاء على لسان رئيس الجمهورية قيس سعيّد، يوم الخميس الماضي، دليلٌ قاطع على هذا الجدل الدائر، مع بروز مخاوف كامنة وراء الخطاب، من محاولات لإقحام الجيش في متاهات السياسة، لا سيما من بوابة الاحتجاجات الشعبية، وهو ما لا تزال هذه المؤسسة تنأى بنفسها عنه.
فعلى هامش ما سُمّي بـ"اجتماع مجلس الجيوش الأعلى والقيادات الأمنية"، في التاسع من يوليو/تموز الحالي، والذي لم يُدعَ إليه كلٌّ من رئيسي الحكومة إلياس الفخفاخ ومجلس النواب راشد الغنوشي، اعتبر سعيّد أن "من بين المخاطر الموجودة اليوم، محاولة الزجّ بالمؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية، واستدراجها بهدف الدخول معها ومع بقية المؤسسات الأخرى في مواجهة". كما تحدث الرئيس التونسي عن "محاولات لتفجير الدولة من الداخل". ومرة أخرى، لمّح إلى وجود تواطؤ بين أطراف في الداخل وأخرى في الخارج"، هدفها زعزعة الأمن القومي.
إن خلاف سعيّد مع حركة "النهضة" لم يصل إلى مستوى اتهام الحركة بالتآمر على أمن الدولة
كانت تلك الكلمات كافية لإطلاق موجةٍ جديدة من التخمينات والتعليقات، المتأثرة بخلفيات أصحابها وارتباطاتهم بالأطراف والمحاور الخارجية. وعلى الرغم من أن سعيّد لم يحدد في خطابه هذه الجهات "المتآمرة" على الأمن القومي لتونس، ولم يعط معلومات واضحة ومؤكدة، مكتفياً ببيان عام حول مخاطر يراها جاثمة أمامه، إلا أن المعقّبين على كلمته ذهبوا في اتجاهات شتى. بعض المراقبين فسّروا كلمة سعيّد في اتجاه تعميق الفجوة بين حركة "النهضة" من جهة ورئاسة الجمهورية من جهة أخرى، وذلك في محاولة لإرضاء جهات متعددة تعمل على إثبات أن تونس تسير نحو الفوضى وعدم الاستقرار. وقيل في هذا السياق، إن الرئيس يلمّح خصوصاً إلى تحالف "النهضة" مع تركيا، لتغيير الأوضاع في البلاد عبر البوابة الليبية. وهذا التأويل وصفه كثيرون بالخبيث، لأن كلمات سعيّد لا تتحمل هذا الإسقاط لقراءة غير موضوعية، من شأنها أن تسيء للرئاسة التونسية، إلى جانب السعي نحو إرباك المشهدَين السياسي والأمني محلياً. فعلى الرغم من امتلاكه لرؤية خاصة للصراع في ليبيا، إلا أن خلاف سعيّد مع حركة "النهضة" لم يصل إلى مستوى اتهامها بالتآمر على أمن الدولة، والعمل على "تفجير المؤسسات من الداخل بدعمٍ خارجي". هذا الاحتمال يندرج حالياً في الخيال السياسي الموجه لأغراض أيديولوجية وحزبية.
لا شك في أن الإسلاميين في تونس ارتكبوا أخطاء كثيرة، سواء في ممارستهم السلطة أو في إدارتهم الصراع السياسي مع منافسيهم وخصومهم، لكن لم يصل بهم الأمر إلى محاولة جرّ المؤسسة العسكرية نحو الصراع السياسي المفتوح من أجل تغيير النظام أو تخريب الدولة. كما أن التعاون العلني والصريح بين "النهضة" وتركيا، التي أصبح شأنها كبيراً داخل ليبيا وفي مياه البحر الأبيض المتوسط، لم يتحول إلى خطة واضحة المعالم تستهدف استقلال القرار الوطني التونسي، وتعمل على تغيير موازين القوى محلياً. هذه الفرضية التي يروجها البعض داخل تونس وخارجها تفتقر كثيراً للأدلة القاطعة. ولو ثبت جزء منها، لكانت ردود الفعل على الساحة التونسية مختلفة كثيراً، ومنذرة بتغييرات كبرى على الصعيدين السياسي المحلي والدولي. فأوروبا والولايات المتحدة وكثير من دول الجوار، لن تسمح بتمرير مثل هذه "المؤامرة المفترضة". وتعلم حركة "النهضة" جيداً أن ذلك خط أحمر لا يحق لها أو لغيرها تجاوزه بسهولة.
ما يثير الاهتمام حالياً هو أن المؤسسة العسكرية عادت من جديد لتجد نفسها في قلب التجاذبات السياسية التي تشقّ الساحة التونسية. حصل ذلك بعد الثورة حين اضطربت أوضاع البلاد، فما كان من الجيش إلا النأي بنفسه عن محاولة افتكاك السلطة، وقام بمساعدة المدنيين على وضع آليات دستورية تمكنهم من إدارة شؤون الدولة، وتحمل مسؤولياتهم. وجاء ذلك على الرغم من أن البعض دعا العسكر إلى الإمساك بالسلطة ولو بصفة مؤقتة حمايةً للدولة من الانهيار.
قد يجد الجيش نفسه مدفوعاً للانخراط في السياسة، من أجل حماية مؤسسات الدولة من التخريب خلال التوترات الاجتماعية
اليوم يُخشى أن يجد الجيش التونسي نفسه مدفوعاً بشكل تصاعدي للانخراط في العملية السياسية، من خلال حماية المؤسسات العمومية من التخريب في لحظة التوترات الاجتماعية، إثر فشل الأجهزة الأمنية في التحكم في حركات الاحتجاج الشعبية. هذه الحركات مرشحة من جهتها للتوسع والمقاومة السلمية خلال المرحلة المقبلة. وما حصل في الكامور ومدينة رمادة بولاية تطاوين أخيراً من احتجاجات، لا سيما بسبب مطالب وظيفية ومعيشية، مؤشر خطير على هذا الاشتباك الذي حصل بين العسكريين والمواطنين، على الرغم من أنها اشتباكات لا تزال محدودة، ولم تتجاوز حدود السيطرة. يحظى الجيش التونسي بثقة المواطنين واحترامهم، وهو ما تثبته مختلف استطلاعات الرأي التي تنظم بشكل دوري. وما يخشى حقاً في هذا السياق، أن يتفاقم العجز السياسي لدى الحكومة التي لا تزال في خطواتها الأولى، ولا تتمكن من حسن إدارة الأوضاع، وتعجز عن تلبية الحدّ الأدنى من المطالب الاجتماعية لعددٍ واسع من الشرائح والفئات، وهو ما سيؤدي إلى سوء الأوضاع، وتفاقم حالات الغضب، وما قد يترتب عنه عدم تقيد الغاضبين بسلمية الاحتجاجات، فيدفع بالجيش إلى التدخل في محاولة للسيطرة وإعادة الهدوء إلى المدن والقرى.
لا تزال المؤسسة العسكرية في تونس مؤمنة بالنظام الجمهوري، ومتمسكة به. لعل هذا الأمر يقلق البعض في تعاملهم مع البلاد. لكن المؤكد أن جميع الأحزاب العلنية والقوى المدنية والاجتماعية مصرة على المحافظة على هذا المكسب الهام الذي يتعلق بالفصل بين الجيش والسياسة. لكن التحدي يبقى قائماً: في غياب أحزابٍ قوية تملك بدائل اقتصادية واجتماعية حقيقية وفعلية، يمكن أن يتعرض هذا المكسب لمخاطر جدية.