الجنون نوّاساً بين العبء والحاجة

16 يوليو 2015
همام السيد / سورية
+ الخط -

في حب الناس للمجانين في بلادنا، بلادِنا التي حكمتها سلطات دكتاتورية متعاقبة طوال قرون، حبٌ للجانب المكبوت في النفس. فالمجانين وحدهم يتكلمون ويقولون ما يريدون من دون حساب أو عقاب مرجأ، حيث يعبّرون عن واقعهم والظروف التي يعيشون فيها كما هي، فلا تشكل "ذواتهم" حواجز انتقائية لما يجري حولهم في الواقع، إنهم تلك الزوارق المحمولة بلا رُبّان على اللغة السيل.

لهذا كانت تخريجات مثل "مبروكين" و"مرفوع عنهم الحجاب"، نافعةً في التقرّب منهم والاجتماع بهم ودعوتهم هنا وهناك للاستماع إلى ما يقولون في تلهف وانشراح وفرح تامّ، فهم يقولون الذي لا يقوى أحد على قوله من تحقيرٍ واستهزاءٍ بالسلطات كافة؛ السياسية والأخلاقية والاجتماعية والدينية.

وظيفة المجانين تلك تصير بلا معنى، في أميركا، بلاد الحرية التي تمكنك من قول كل شيء، حيث يتبعثر المجانين والمشردون في أزقتها وأحيائها، بلا اكتراث من سابلة مضبوطي ومحددي المواعيد. هذا اللاإكتراث الذي لا يبدو سوى خوف.

ولكن المجانين والمشردين الذين يعيشون على هامش العقلانية الفجة، التي لا تترك مجالاً للتفكير والقول خارجها، يبدون مرايا مرعبة لما لا يُراد له أن يرى في البلاد التي تعلن سلطاتها أن لا سطوة سياسية أو أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، بينما لا لغة فيها لتوصيف الواقع ورؤيته إلا لغة أجهزة الميديا الضخمة.

هكذا، نتيجة لقولهم وحديثهم المنفلت من كل "القيم"، والذي يعاكس ما تنتجه المنظومة الرسمية من "الحقيقة"، يتحولون إلى عبء نفسي، فيُنتقم على ذلك منهم بالاحتقار والتشويه واللاإكتراث، ما يتجلى في نهرهم أو تقريعهم بعقلانية مثيرة للسخرية على ما يفعلون. أو الهرب منهم لأنهم "خطيرون"، أو تجنب الحديث إليهم لأنهم "ممسوسون".

أتذكّر الآن كريس قادماً يعرجُ يكاد يتجمّد من البرد، لم يتذكرني حين أعطيته بعض الدولارات، لكنني تذكرت كيف سهرنا تلك الليلة على أحد الأرصفة، أنا الغريب أوائل وصولي من بلاد التصق بها الطغاة كاللعنات إلى القارة الجديدة، وهو الغريب فيها، يحدثني عن كرهه لـ "البوليس" وأحدثه بدوري عن ازدرائي لهم أيضاً.


* شاعر سوري مقيم في نيويورك

المساهمون