الجنة كان اسمها بيروت (1)

08 يوليو 2019
+ الخط -
في تلك الأيام العصيبة من أيام صيف 2006، كنت قد نجوت من الموت في لبنان بأعجوبة، لكنني عندما عدت إلى القاهرة كان لبنان يموت، وكان هذا ما كتبته يومها لكي أوثق شهادتي على ما حدث لي في بيروت، وما حدث لبيروت:

....

في هذه اللحظات وأنت تجلس آمنا في سربك معافى في بدنك عندك قوت يومك، هناك لبناني يُستشهد أو يُجرح أو يحاول الهرب بأسرته عبر طرق جبلية وعرة تسلكها السيارات لتختبئ من عيون الطيارين الإسرائيليين، أو يبحث عن بنزين لسيارته التي يأمل أن يستخدمها في الهرب أو عن خبز يؤمن به أولاده غوائل أيام لا يعلم نهايتها إلا الله، أو في أحسن الأحوال يختبئ هو وأطفاله في جراج أو بدروم يحاول أن يرفع صوته ليصبح صوته أعلى من صوت الطائرات، لعل أطفاله يتمكنون من سماعه وهو يحاول أن يشرح لهم لماذا تعرض أصدقاؤهم وجيرانهم للقتل بالأمس وهم نيام.

آه.. يا الله يا ولي الصابرين.. من أين يمكن أن يبدأ الإنسان وصف مذبحة؟

كنت قادما قبل ذلك مباشرة من سوريا. وصلت إلى بيروت في الثالثة من فجر ذلك اليوم الذي نَفَّذ فيه مقاتلو حزب الله عملية (الوعد الصادق) التي تمكنوا فيها من أسر جنديين إسرائيليين، لكنني عندما وصلت لم أكن أعلم أن تلك العملية قد حدثت بعد. كان مطار الشهيد رفيق الحريري يشرح القلب العليل، قطعة حضارية مشرقة وتعاملا راقيا مع الواصلين إلى بيروت مهما كانت ظروفها الأمنية. لم أكن أعلم أنني سأكون واحدا من القلائل الذين شاهدوا مطار رفيق الحريري وهو يعمل لآخر مرة خلال الأيام القادمة. كانت بيروت نائمة آمنة لا تعرف ما ينتظرها في اليوم التالي، وأنا أسير في شوارعها ـ التي كانت جميلة ـ كنت أشعر ببعض القلق عليَّ وعلى زوجتي، خصوصا بعد ما سمعته من تحذيرات عن حالة الانفلات الأمني والتي أدت لوقوع حوادث مؤسفة، كالتي تعرض لها الصديق المنتج محمود بركة والممثلة زينة قبل أشهر عندما تعرضا لمحاولة خطف من قبل عصابات للجريمة المنظمة.


قمت بتحويل الموبايل إلى «السايلنت»، وأخذت أتصنع الاتصال بصديقي الحاج جعفر الطفيلي المقيم في النبطية، لكي أُشعر سائق التاكسي أن لي عزوة وناساً في بيروت (لم أكن أعرف أن مكالمتي التالية مع الحاج جعفر بعد ساعات ستكون اطمئنانا على أسرته واعتذارا عن عدم تمكني من القيام بزيارة الجنوب اللبناني التي كان لابد لي منها كلما وصلت إلى لبنان، ولم أكن أعرف أيضا أن المكالمات التالية سيتلقاها الحاج جعفربصعوبة بالغة لأنه مختبئ هو وزوجته الحاجة فاطمة وأولادهما وأقاربهما ينتظرون الموت في أي لحظة).

نَمُرُّ على الضاحية الجنوبية المجاورة للمطار، فأشير لزوجتي إلى المدخل المؤدي إلى (حارة حريك) معقل قيادة حزب الله حيث تسكن الحاجة أم جلال اللبنانية التي زوجت ابنتها مصرياً من قراء صحيفة (الدستور) تعرف عليها وأحبها على الإنترنت. تذكرني زوجتي بزيارتها في رمضان الماضي لمقر حزب الله حيث أجرت حوارا صحفيا مع الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله، ونتذكر الأمسية الرمضانية الجميلة التي قضيناها في ضيافة أم جلال في بيتها الجميل، نفكر في هدية مناسبة نهديها لأم جلال عند زيارتنا لها، وتتأسف زوجتي لأن الوقت الذي سنقضيه في لبنان ضيق جدا ولن يكفي لطلب موعد صحفي مع أحد قيادات حزب الله، لم نكن نعلم أنه بعد يومين لن يكون هناك أصلا مقر لحزب الله الكائن في حارة حريك التي سوتها طائرات إسرائيل بالأرض.

ونحن نتقدم في طريقنا إلى شارع الحمراء في رأس بيروت حيث يقع فندقنا بدأت أسخر بداخلي من التهويلات والمبالغات التي سمعناها عن تردي الأوضاع الأمنية في بيروت، طيلة الطريق لم نصادف شيئا يلفت الأنظار، بيروت تبدو في أجمل حالاتها تعدنا وتمنينا بأيام جميلة، القلق الوحيد الذي كنت أشعر به هو قلقي من عدم تمكني من الحصول على تذاكر ولو في السوق السوداء لحضور مسرحية السيدة فيروز (صح النوم) التي ستعرض بعد يومين في بعلبك، أضع أملي بعد الله على صديقتي الصحفية بجريدة (السفير) ضحى شمس الأقرب إلى السيدة فيروز وعملها الأبدع زياد رحباني، لم أكن أعرف وقتها أن بعلبك ستكون هدفا لطلعات جوية وحشية تقتل المدنيين وتروع الآمنين فضلا عن إجهاضها حلم الآلاف برؤية السيدة فيروز تشدو على المسرح مطالبة الوالي بأن يستيقظ من نومه لينظر في طلبات شعبه الذي هده الفقر وأضناه الجوع.

كنت قادماً من دمشق عازماً على ألا أعود إليها ثانية وممنياً النفس بأن أكتب في اليوم التالي مقالاً نارياً عن سوريا التي أحبها والتي لم أجدها كما عهدتها، سوريا التي سلبوها من شعبها وكتبوها باسم الأسد وولده. فور وصولنا إلى الفندق نمت لكي أصحو في الصباح وأبدأ في التجهيز لكتابة صفحة قلمين التي كنت أنشرها في صحيفة (الدستور) كل أسبوع، صحوت في الحادية عشرة صباحا قلقا لكي تداهمني أخبار عملية (الوعد الصادق) على جميع شاشات التلفاز. بالطبع فرحت من كل قلبي فور سماع الأنباء، لكن ربك والحق بعدها قلقت، لا أدري لماذا شعرت أن هذا أمر له ما بعده، قناة المنار تقول إن اللبنانيين نزلوا إلى الشوارع لكي يعلنوا ابتهاجهم بالعملية ويوزعوا الحلوى على بعضهم. عندما نزلت إلى الشارع فورا وتجولت في أغلب الشوارع المحيطة بالفندق الكائن في شارع الحمراء، أدركت أن الصور التي أذاعتها المنار للابتهاج الشعبي كانت بالتأكيد في الضاحية الجنوبية وربما في المخيمات الفلسطينية، لكن هنا في رأس بيروت لا أحد مبتهج ولا حلوى توزع ولم يرفع أحد أعلام حزب الله أو صور السيد حسن نصر الله، هنا أهم منطقة في بيروت تحوي جميع الطوائف، بها أهم الوزارات والفنادق والمحال والمؤسسات ودور النشر والسينما والأسواق التجارية، طبيعي أن يكون الناس هنا قلقين على مصالحهم، فمن شأن العملية أن تحدث قلقا لدى السياح القادمين إلى لبنان والذين يعتمد اقتصاده عليهم بشكل شبه كامل، السخط يبدو جليا على ما فعله حزب الله، لم أعلق قط، اكتفيت بأن أستمع، أغلب من تحدثت إليهم يستنكرون انفراد حزب الله باتخاذ خيار كهذا في نفس الوقت الذي يدور الحوار بين مختلف الأطراف اللبنانية حول الواقع اللبناني المتأزم والقابل للانفجار في أي لحظة، واقع كاد يفجره برنامج كوميدي سياسي قام بتقليد حسن نصر الله أو حتى الاحتجاج على رسم كاريكاتير دانماركي مسييء للرسول عليه الصلاة والسلام، بل وحتى مباريات كأس العالم التي شهدت اشتباكات بين مشجعي الفرق المختلفة.

«كيف بتكون معي المسا بنحكي عن شو بدنا نعمل، وتطلع من عندي تروح تجرني لحرب ما حدا بيعرف شو بيصير فيها»، هكذا قال المتردد على مكتبة المعري والذي يبدو مثقفا عتيدا من نوعية الكتب التي يحملها على الأقل، رد عليه صاحب المكتبة بهدوء واثق: « ولك يا زلمه.. ها الجنديين اللي خدوهون واللي انقتلوا يساووا الأمة العربية كلياتها». منطقان متعارضان تجد نفسك للحظة تؤيد كلا منهما، لا يبدو الوقت مناسبا للغة حماسية مع أناس خائفين على بلادهم كهذا، «حط نفسك مكانهم»، هكذا قلت لنفسي وأنا أسأل الله للبنان ولي ولزوجتي.


ماهي إلا لحظات وجاء الرد الإسرائيلي قويا عنيفا على الجنوب اللبناني بضرب الجسور ما بين صيدا والجنوب؛ بزعم الخوف من تهريب الجنديين الإسرائيليين عبرها، هذا ماكان يتوقعه الجميع، وأنا صاعد إلى غرفتي تقول لي موظفة الفندق إن تذاكر طيراني للعودة إلى القاهرة بعد خمسة أيام قد تم تأكيدها وتؤكد عليَّ أن أكون في المطار قبل موعد الرحلة بساعتين، وأن أعمل في طريقي حساب «العجقة» ـ التعبير اللبناني الألذ في وصف الزحمة. أتصل لأطمئن على الحاج جعفر، كان في متجره في النبطية، سارع لنقل زوجته وأولاده إلى منزل أكثر أمنا به مخبأ في أسفل قريتهم الواقعة على بعد نصف ساعة من معتقل الخيام المحرر. أعتذر له عن عدم تمكني من المجيء إليه، أقول له: ستنزاح الغمة قريبا، يقول لي: «ماباظن»، أقول له: كلها يومان وأجيء إليك لتأخذني من جديد إلى بوابة فاطمة لنرمي الحجارة على حرس الحدود الإسرائيليين كما فعلنا من قبل، وأعدك أنني سأحاول التماسك هذه المرة في معتقل الخيام على عكس ما كنت عليه من تصدع عاطفي في المرة الماضية. كان ذلك عندما اصطحبنا الحاج جعفر لزيارة المعتقل المحرر في أكتوبر الماضي، وبمجرد دخولنا جرت ابنته الصغيرة لتقف على مدفع إسرائيلي غنمته المقاومة ورفعت علامة النصر بينما كتب خلفها بخط جميل «وإسرائيل إلى زوال». بكينا من الفرحة، ثم بكينا من الأسى ونحن نجول في زنازين المعتقل الضيقة المعتمة ونقرأ العبارات التي كتبها الأسرى على الحوائط حنينا إلى الأهل والحرية ولبنان وفلسطين، تذكرنا المعتقلات العربية التي لن يتحرر من فيها ولو بشق الأنفس، زرنا قلعة الشقيف المحررة المهيبة، وبكينا على فلسطين ونحن نشاهد المستوطنات التي تبدو خلف السلك الشائك قطعة من أوربا، جلسنا ساعات في انتظار دورية حدود لكي نقذفها بالحجارة، الآن وأنا أكلم الحاج جعفر أتذكر أن كل ما مررنا عليه في زيارتنا الأخيرة صار مناطق للموت المجاني. سيكون من العبث النزول إلى الشارع مجددا للاحتفال ولمشاركة الذين تقول المنار إنهم نزلوا إلى الشوارع بالآلاف، فالحكاية تتطلب مشوارا بعيدا إلى الضاحية الجنوبية. أتصل بأم جلال لأحييها، أجد تلفونها مشغولا لفترات طويلة، فأقرر تأجيل المكالمة إلى الليل.

مع الوقت بدأت الصورة تتضح، الجنوب اللبناني الآن يتعرض لحملة دمار شامل، فجأة ودون أن يفهم أحد شيئا أصبح لبنان كله ساحة حرب. الآن فقط تأكد أن حزب الله قد ارتكب خطأ إستراتيجيا عندما توقع أن الرد الإسرائيلي سيكون مرتبكا بسبب انشغاله في جبهة غزة، وأنه لن يجرؤ على اتخاذ رد فعل عنيف كما جرت العادة منذ اندحر من الجنوب، لم يكن أحد يتصور أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت المهزوز الذي لا يمتلك سجلا حافلا بالدماء كسجل شارون، سيعتبر أن هذه فرصته لكي يقدم قربانا معجونا بدماء اللبنانيين لناخبي إسرائيل. بالفعل أخطأ حسن نصر الله عندما راهن على أن الأمة العربية ستحمل أرواحها على أكفها وتخرج لتسانده لأنه العربي الوحيد الذي قرر أن يساند أهل غزة ويخفف الضغط عليهم ولو قليلا. دون شك أخطأ حسن نصر الله التوقيت؛ فالأمة العربية لم تهدأ بعد من غمرة انفعالها بنهائيات كأس العالم التي جرت منذ أيام وحضرتها في قرية سورية صغيرة تقع على الحدود التركية، كان ينبغي أن ينتظر حتى نتأكد ما الذي قاله ماتيارزي لزين الدين زيدان فأفقده صوابه وجعله يخاصم روحه الرياضية إلى الأبد، كان لابد أولا أن نحسم نقاشنا هل أسلم تييري هنري أم لا، وأن نتأكد أنه لو كان قد أسلم وصدق إيمانه لما انهزمت فرنسا. للأسف أخطأ حسن نصر الله عندما جر الشعب اللبناني كله إلى مجزرة مجانية يتفرج عليها العرب تماما كما يتفرج عليها غيرهم. هل كان حسن نصر الله أو غيره يتوقع أن يأتي في اليوم التالي رد الفعل السعودي الذي اختار ألا يدين استهداف المدنيين بقدر اختياره إدانة المغامرين في حزب الله، كأن الجسور والبيوت التي هدمت والأرواح التي أزهقت لم تستوقف ملك السعودية ومن بعده ملك الأردن وملك مصر؟ أزعم أنني لم أشاهد خيبة الأمل في وجوه اللبنانيين كما شاهدتها بسبب تلك المواقف العربية المخزية، «هيك يا أخي عم يعطوا إسرائيل ضوء أخضر تدبحنا دبح»، هكذا قال عامل المطعم وهو يقوم بالاتصال كل خمس دقائق على أهله في الضاحية الجنوبية، شاكيا من أن ميزانيته هذا الشهر ستتأثر بسبب هذه المكالمات. نحاول أن نقنع أنفسنا أننا في إجازة، وأنه لابد أن نبتعد عن جو التوتر العصبي الذي نشعر به ونحن جالسون في الأوتيل، لا بد أن نستمتع في حدود المتاح حتى يحين موعد سفرنا إلى مصر، الذهاب إلى حريصا أو جعيتا في الجبل كما كنا نخطط لم يعد آمنا الآن، الأفضل أن نظل داخل العاصمة، لنذهب إذن إلى سينما سوديكو في الأشرفية لنحضر فيلما ننسى مع أحداثه كل مايدور حولنا من أحداث. طيلة الوقت كان القلق يكسو الوجوه في كل مكان مع أن الدنيا لم تكن قد اشتعلت بعد، برغم كل التفاصيل استمتعنا بالفيلم الذي كان من بطولة المتألق آل باتشينو، وعدنا إلى الأوتيل نحاول أن نهرب من قلقنا من جديد ولكن هذه المرة كانت المهمة أصعب بكثير.


سائق التاكسي المتوتر والعصبي يصب الشتائم على كل من في لبنان وعلى كل العرب والمسلمين، كان مذيع الراديو يسأل محللا سياسيا من الذين يروجون في زمن الحرب عن توقعاته لما سيحدث في الغد، قبل أن يحلل المحلل فلوسه أطفأ السائق الراديو وشتم عضوا حساسا في جسد أم المحلل وأخت المذيع قائلا: «أنا راح إقلك شو بيحصل.. راح ناكل قتلة منيحة تانبكي دم..وبعدين بدون يتفاوضوا معنا.. مفكر حاله حسن نصر الله راح يقولوا له: دخيلك شو بدك راح نعطيك بس هات الأسرى». أوافقه على كلامه وأتأمل فيما قاله، يبدو كلامه صحيحا، تنظر إليَّ زوجتي معاتبة لتأييدي له، من الصباح ونحن مختلفان حول تقييم العملية وتوقع ما يحدث، أقول لها: «صحابك في حزب الله هيخلوها خل وفاكرين إن اسرائيل هتبكي على لبنان». من بعيد ربما تراني متخاذلا وانهزاميا لكنك لو كنت مكاني ربما لسألت نفسك عن جدوى أن تجر شعبا كاملا إلى الموت وأنت تعلم أنه لن يقف معك أحد في هذه الأمة الميتة. لم أحب قائدا سياسيا عربيا مثلما أحببت حسن نصر الله، لكنني كنت أعلم دائما أن تميز حزب الله أنه الحزب الإسلامي الوحيد الذي يبني كل قراراته على أسس علمية ولديه خبراء في الإستراتيجية العسكرية والسياسية يرجع إليهم قبل اتخاذ كل قرار. في رأيي للأسف الشديد حسبوها غلط هذه المرة، مررنا في ساحة رياض الصلح حيث كان بعض الشباب مخيمين هناك في اعتصام تضامني مع الفلسطينيين واستعدادا لمسيرة حاشدة في اليوم التالي تشترك فيها كافة القوى السياسية. شتم السائق أمهات وأخوات الواقفين، ثم قال لنا مبررا موقفه: «هادولي كلياتون عملاء لإسرائيل.. خلي حدا فيهون يسمع صوت رصاصة وراح يفل.. حسن نصر الله عامل لي حاله قبضاي.. ما بيعرف إن إيران ما راح تسأل فيه ولافينا.. وسوريا ما راح تحارب إلا على الفضائيات.. شوف يازلمة مشكلتنا عنا ناس كتير عاملين لي حالون مشايخ ومسلمين.. لكن هم عملاء لإسرائيل. شوف يازلمة أنا مسلم لكن أكتر ناس أكرههن هن المشايخ عنّا.. المشايخ المزبوطين في أفغانستان وباكستان.. عنّا الشيخ بيمشي بالمصاري وبس». بدأ الرجل يخرف، لكن هل الوقت مناسب الآن للنقاش مع سائق تاكسي؟ لم تكن حكمة السنين قد علمتني بعد أن النقاش مع سائق تاكسي أمر عبثي في كل الأوقات وتحت كل الظروف، الآن نمر على شارع الحمراء، من يصدق أن هذا هو شارع الحمراء المبهج في العاشرة ليلا؟ لاوجود لـ "سرّيخ ابن يومين" في الشارع كله، كل المحال مقفلة، بيروت الساهرة حتى مطلع الفجر تبدو الآن كأنها مدينة أشباح.

نحاول أن ننام بصعوبة، الحمد لله .نمنا. في الصباح صحونا على أصوات الطائرات الإسرائيلية تخترق سماء لبنان، الصوت القوي الداهم يعني أن الطائرات تطير على ارتفاع منخفض، أصوات مضادات أرضية، نجري إلى التلفزيون بحثا عن الأخبار، إنهم يعلنون في الجزيرة الآن عن قصف مكثف لمطار بيروت، من الآن لن يتذكر أحد اسم الحريري الذي تم إطلاقه على المطار، الأخبار في كل الشاشات تقول إن القصف استمر طيلة الليل على مطار بيروت، كنا رائحين في سابع نومة ولم نشعر بشيء قط، لم أتذكر عند سماعي الأخبار أنني المفروض أن أسافر من ذلك المطار بعد أيام. أنظر إلى سماء بيروت التي تعربد فيها الطائرات الإسرائيلية وتنشر الفزع في قلوب الجميع، أسأل شابا يعمل في الفندق: كيف تطير الطائرات الإسرائيلية هكذا على ارتفاع منخفض دون أن تخاف من إسقاطها بمضادات الطائرات؟ ينظر إليَّ ساخرا بمرارة ويمضي دون أن يعلق على سؤالي. لم أفهم سر نظرته المريرة إلا عندما عدت إلى الغرفة لأشاهد الكاتب رفيق نصر الله وهو يسخر بشكل عنيف من القدرات القتالية للجيش اللبناني: «شو هالجيش اللي ما عندو طيارات ولا صواريخ.. ما عنده غير بارودات بتضرب شي ميتن متر لقدام». أستغرب هذه الجرأة وأبررها بحرقة قلب الرجل على الذين يتصلون بالبرنامج الذي كان يتحدث فيه ليطالبوا بنزع سلاح حزب الله، محاولا أن يشرح لهم كيف سيكون لبنان من غير سلاح حزب الله. اللوم يتصاعد من الناس جميعا على حزب الله الذي ورط لبنان هذه الورطة التي لا يعلم إلا الله كيف سيخرج منها، في مداخل الفنادق يتسابق السياح لإلغاء حجوزاتهم والبحث عن وسيلة للخروج من لبنان، أتشاور أنا وزوجتي لاتخاذ قرار مناسب لا يورطنا في مغامرة غير محسوبة، تتصل بنا موظفة من شركة السياحة مشكورة لتسألنا إذا كنا بدنا «نفِلّ»، أوجعتني الكلمة مع أنها لا تعني الفرار حرفيا بقدر ما تعني سرعة الحركة، في نفس اللحظة كان التلفزيون يعلن عن قطع الطيران الإسرائيلي لطريق بيروت دمشق الدولي. الحركة الآن ستكون خطيرة مع هذا الجنون الإسرائيلي، وزير النقل اللبناني يعلن أن المطار قابل لأن يعود لعمله خلال 48 ساعة إذا توفر القرار السياسي، وأن المدرج الغربي الذي تم تدميره يمكن الاستغناء عن جزء كبير منه. تتعدد الآراء وتتضارب الأقوال، السفارات العربية والأجنبية تبدأ في الاتصال برعاياها في الفنادق المختلفة لكي تبحث معهم هل يريدون الخروج من لبنان وكيف ستساعدهم على ذلك، لا تسألني عن السفارة المصرية فأنا أعلم أن موظفيها بالتأكيد مشغولون بما هو أهم من حياة المصريين، سيقولون لك إن سألت: «طب انت اتصلت بينا وإحنا قصّرنا؟». هذا هو الفرق، في لبنان يعمل عشرات الآلاف من المصريين في أفقر المهن للأسف الشديد، جمع القمامة أو الزبالة إن جئت للحق، والأسعد حظا منهم يعملون في محطات البنزين، يفضلهم اللبنانيون خاصة بعد رحيل أغلب العمال السوريين عن لبنان بعد «الجلاء السوري»، يفضلهم أصحاب رأس المال لأنهم «آدميون وعندون أمانة وما بياخدوا مصاري كتير». ويالسخرية الأقدار، «المصاروة» لا يأخذون «مصاري» كتير لا في بلادهم ولا غيرها، فقد اكتفوا أن يحملوا من المصاري اسمها فقط، لا أن يحملوها هي شخصيا.

بعد أن أصبحت محطات البنزين هدفا لطائرات إسرائيل وتم قصف عشرات المحطات بدءا من أول يوم في المجزرة، لم نسمع تصريحا واحدا لمسئول دبلوماسي مصري يطالب العمال المصريين بالتوجه إلى السفارة لمساعدتهم على الإخلاء، أو حتى لم نسمع تصريحا واحدا لمسئول دبلوماسي يقول لنا ماذا تم مع العاملَين المصريين الذين استُشهدوا في إحدى المحطات التي تم قصفها، وما مصير العمال الباقين. يبدو أن مسئولينا الدبلوماسيين يفضلون العمل في صمت، على عكس كل مسئولي البعثات الدبلوماسية الذين لم يكلوا ولم يملوا من الظهور في كل وسائل الإعلام المتاحة لكي يناشدوا رعاياهم بالتوجه إلى السفارات لبدء إجراءات إخلائهم من لبنان.

نكمل غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.