21 ابريل 2022
الجسد العربي والسياسة
مرة أخرى، وثالثةً وأبدًا، يغدو الجسد مفتاحًا لفهم تفاصيل سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة (وقبل/ مع كل ذلك دينيّة)، مختلفة ومتباينة، بل وقد تكون ظاهريًا متعاكسة، فهو (الجسد) يصر على الحضور الفجّ بكل ما أوتي من قوةٍ وكثافةٍ في كل مشهد يحيط بنا. وهنا نتذكر مقولة الناقدة الأميركية جوديث باتلر: "لا جسد لا سياسة". فبين "طحن" بائع السمك المغربي المتجوِّل محسن فكري في عربة النفايات مع بضاعاته وما تمثله له (ولنا)، بأمر الدولة المغربيّة، مُمثلة في ضابط شرطتها، وخبر تكليف ملك المغرب وزير العدل بتعيين محامٍ للدفاع عن المطرب سعيد لمجرد (على نفقته الشخصيّة!) في باريس، حيث قبضت عليه قوات الشرطة الفرنسية بتهمة التحرش الجنسي في الفضاء العام، يُمكننا فهم سيرورات استلاب الجسد العربي والعنف ضده من "الدولة الحديثة"، عربيًا، بشكلٍ مادي مباشر، وبشكل معنويٍ متجاوز.
وإن كان المشهدان ليسا جديدين، فكذلك العلاقة المُقارنة بين جسدي البائع والفنان المتحرش، ليست جديدةً عن/ على ثقافة الحداثة العربيّة في شكلها الممأسس "الدولة الحديثة" كذلك، فـ"الجسد الشرقي"، إذا كان لنا أن نستعير تعبير التونسي فتحي المسكيني، بات حقًا ومِلكًا مفهومًا بشكلٍ ضمني لمؤسسة الدولة وثقافتها الحاكمة، باقتصادها السياسيّ والاجتماعيّ والمعرفيّ، بل والقيميّ (الدينيّ) في المعيش اليوميّ للمواطن بشكله الفرديّ (بل والحميميّ حتى) والاجتماعيّ، وما تنامي ازدياد ثنائية الحجاب/ التحرّش الاجتماعيّة مثلًا في فضاءاتنا العامة إلا شاهد فج، لا ينفصل عن تغيير تراسيم الإناث وصورها في الكتب المدرسيّة وتحجيبها أو فرض الحجاب على وعي أجيال صغيرة عمريًا، وبعد أن باتت "التربية الوطنيّة" للصف الخامس في مناهج السلطة الفلسطينية تقوم على "شروط النكاح" و"أهميّة إشهار النكاح" و"أهمية الزواج" و"إنجاب الأطفال"، أو أن يدعو منشور إلى مسيرةٍ بمناسبة ذكرى مجزرة كفر قاسم، يُحذر الفتيات من التبرّج، أو أن تحتفل الجموع المصريّة بانتخاب رئيسها بحوادث تحرّش جماعيّة، يبرر لها الإعلام بأن "الشعب مبسوط"!
بعد أن "كنّا نظنّ أنّ إهانة الجسد البشري، أو تعذيبه في السجون، أو حتى اغتصابه أمام عائلته هي أقصى ما كان مُمكنا التعرّض إليه من مصائب أخلاقية على حرمة النفس في أفق ثقافتنا" (فتحي المسكيني)، يغدو "الجسد الشرقي" –العربي في عصر الصورة العنيفة واقعًا تحت عديد أنواع الاستلابات، منها المادي المباشر كالبراميل المتفجرة وسكاكين "داعش" وناره
وسيارات النفايات في المغرب، والاختفاءات القسرية في مصر وغيرها، والاستلاب المعنوي بكل هذا الكم من أنظمة الرقابة والكاميرات في الشوارع، وموجات الهجرة والنزوح خوفاً من القتل والقمع، والخوف إستلاب للحق المعنوي للجسد أن يحيا ويمارس ماديته ومعنويته في أمان. (نُشر خبر أخيراً عن طالبة طب سورية فوجئت، في محاضرة مادة التشريح، بجثة أخيها المختفي منذ ثلاث سنوات، والمحاضر يخبر طلابه فرحًا بوصول "جثة جديدة"). "لكنّ ما أخذ يحدث راهنا من انتهاكات غير مسبوقة للجسد البشري في الشرق قد صار مدعاة لمرثيّة ميتافيزيقية من نوع جديد"، ليس ذلك فحسب، إنما أيضًا مدعاة لسؤالٍ جديد: هل تستخدمنا "الدولة الحديثة" كدروع بشرية، لتدافع بها عن حدودها الماديّة والمؤسساتيّة والأيديولوجية والثقافيّة؟
إذا جاز أن نعتبر ضمن سياق حداثيّ معولم أن "المدينة" هي النموذج والهدف المنشود حداثيًا، والمعيار الذي يقاس به المجتمع المتقدم، من حيث كونها فضاءً، عليه أن يوفر لأجسادنا حقوقها المادية/ الفيزيولوجية والمعنوية/ الأخلاقيّة، فإن الحق الجسديّ في "المدينة" هو معيار لحداثة المجتمع، ولعل الحداثة، إذا كان من ضمن إدعاءاتها الحريّة والديمقراطية، فأي شهادةٍ تقدمها لنا مدننا عن أجسادنا وأجسادنا عن مدننا؟
يشكل "الحق في المدينة" (مكانًا حداثيًّا) لدى المفكر الفرنسي، هنري لويفيفر، إعادة تفكيرٍ راديكاليةٍ للهدف من "الانتماء" إلى مجتمعٍ سياسيٍّ وتعريفه ومضمونه؛ فلويفيفر لا يوظّف المصطلحات الوضعيّة القانونيّة الرسميّة للـ"مواطنة" لتعريف فكرة الانتماء للمجتمع الإنساني سياسيًّا، باعتبارها المعنى الأسمى لـ "المواطنة"، بل هو يرسّخ "الحق في المدينة" في تعريفٍ معياريٍّ، يستند إلى مفهوم الإقامة (Inhabitance)، ضمن حقّين أساسيّين:
الحق في التخصيص في الحيّز المدينّي، بمعنى الحق في الاستخدام والمنفعة: وهو حق "المقيمين/المقيمات" في "الاستخدام الكامل والتام للحيّز المدينّي في حياتهم/ن اليوميّة؛ إنه الحق في العيش واللهو والعمل والوجود في حيزٍ مدينيٍّ بمدينةٍ معينة، وتمثيل هذا الحيز وشغله بشكلٍ متساوٍ وعادل.
الحق في المشاركة والمسؤولية: وهو حق المقيمين/ المقيمات في "الحيّز/ المكان" في لعب دورٍ مركزيٍّ في سيرورات صنع القرار المنوطة بإنتاج الحيز المديني على جميع المستويات، بدءًا من السياسات الفردية للذات في تلك الأمكنة، وصولاً إلى تشكيلاته السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والقيميّة.
ويمكن القول إن تلك الحقوق تسبح في فضاءٍ من متغيراتٍ، تساعد على فهم مفهوم "المواطنة" وتشكيله، بصفتها "حقًّا في المدينة"، منها:
إعادة قياس المواطنة، من خلال إيجاد معايير قياسيّة قيميّة أخرى، تستقي وجودها من مفهوم "القيمة الأخلاقيّة للوجود الإنسانيّ/ الإجتماعيّ" بشكله الأفقي: كالحرية والعدل، وغيرهما، وليس من "الإجراء" الحداثي كالانتخابات، باعتباره بنيةً هرميّةً مؤسسيّةً منفعيّة، تجعل الإنسان جزءاً من المؤسسة، وليس هدفاً لها.
إعادة توجيه المواطنة، بعيدًا عن تمظهراتها القطيعيّة ومؤسساتها، باعتبارها بنًى سلطوية، كـ "الأمة" التي تعتبر بمثابة مجتمع سياسي مهيمن، والذي يتذرّر فيه الفرد لصالح القطيع. (اليابان تمنح حق الانتخاب للمقيمين/ المقيمات على أرضها من غير اليابانيين).
تؤدي إعادة توجيه المواطنة إلى توالد هويات ومجتمعات التعددية السياسيّة والثقافيّة، وبالتالي،
يبزغ حينها سؤالٌ مفاهيمي: إلى أي مدًى تكون فكرة "الحق في الحيز المديني" حساسةً لمسألة اختلاف الهوية؟ بعبارةٍ أخرى، إلى أي مدىً يمكن أن يتسع الحيز المديني بصفته فضاءً مشاعًا/ مشتركًا لأنماط مختلفةٍ من الخطاب التحرّري المعبر عن الهوية، المستند إلى الجسد أداةَ تعبير ووجود، والفضاء المشاع والحق العادل والمتساوي فيه جزءًا من الحق في المواطنة، في مواجهة قمع آليات المؤسسة الخطابية السياسية/ الثقافية/ المجتمعية/ الاقتصادية/ الدينية؟
لنا أيضًا أن نتساءل: ما الذي استفز مؤسسة "الدولة الحديثة" في جسد الشاب المغربي، البائع المتجول في المدينة، محسن فكري، لتقوم بقتله/ إفنائه، بطريقة بالغة العنف ماديًا ورمزيًا، من خلال طحن جسده في سيارة النفايات؟ وما الثقافة التي تؤسس لهذا العنف؟
على الجانب الآخر من التساؤل نفسه: ما الذي دفع أعلى رموز الدولة المغربية، الملك، لمؤازرة المطرب المغربي المتحرش، سعيد لمجرد، والدفاع عنه من عقوبة السجن (العقوبة التي تقوم بالأساس على حبس الجسد في مكان ما)؟ وما الثقافة التي تنبني على هذا الدفاع؟
يقول الفيلسوف الفرنسي، جان بودليارد، إن السلطة تتحكم في الواقعي، إنما الرمزي فلا؛ وبالتالي، يتحدد لنا هامش مقاومة أي سلطةٍ من خلال الرمزي. وفي الحالتين السابقتيِّن، ثمّة مواجهة ماديّةٌ ورمزيّةٌ ما، فالدولة مُمثلةً في الشرطيّ، التي أمرت بطحن شكري بائع السمك إنما تُفني وجوده المادي بسلطتها الماديّة والرمزيّة عليه. وأما الرمزيّة أيضًا في أن يدعو رئيس الوزراء المغربي عبد الإله بنكيران (المحسوب على الاتجاه الإسلامي) أتباع حزبه لعدم الانجرار خلف دعوات للتظاهر على خلفيّة تلك الجريمة، ثمّة رمزيّة عالية، تلقي بضوئها على السياسي (الإجرائي) والأيديولوجي (الديني) والقيمي (الكرامة والدين كمنظومة قيميّة)، ها هنا.
وفي الحالة الثانية، تستدعي الدولة/ المؤسسة أعلى رموزها (الملك) في منظومة ملكيّة، ليرسل رسالة واضحة بأن التحرش، بشقيه الماديّ/ الجسديّ و المعنويّ/الأخلاقي، مقبول ضمن رمزية السلطة، والثقافة والمؤسسة، بل والقيمي الأخلاقي الحداثي، كذلك.
علاقة الأفراد بأجسادهم/ أجسادهن من ناحية، وعلاقة تلك الأجساد بالسلطة من ناحية أخرى، هي ما ينبني عليه فضاء الاستسلام لتلك السلطة وفضاء مقاومتها، كما تنبني عليه الهوية الفردية والاجتماعيّة كذلك. فالثقافة إذا كانت أنماطاً فكرية وقيماً ومعتقدات تتشاركها مجموعة محدّدة من الأفراد، وتميزها عن غيرها من المجموعات، شريطة أن تتضمن معنىً يمكن كل فرد أن يفهم ويستوعب عالمه وذاته. وبالتالي، يصبح قادرًا على إنتاج رموزه والتعبير عنها، ضمن ما يمكن تسميته "علاقات اجتماعية"، وهي ما يفعله الأفراد من أنشطة وسلوكيات: "فعل اجتماعي" متضمّن في "بنية اجتماعية". فإن السلطات المغربية ببساطة، تؤسس لثقافةٍ حداثيّةٍ مدينيّة، تقبل وتشجع وتدافع عن التحرّش والانتهاك المادي والرمزي للجسد المؤنث، وما يقابل ذلك من تمجيد الذكر المسيطر المتحرّش، وأن أي خروجٍ عن سلطة هذا الذكر ومقاومته، حتى وإن كان لأسبابٍ معيشيّة يوميّة بحتّة، فمصيره ماديًا ورمزيًا: النفايات.
وإن كان المشهدان ليسا جديدين، فكذلك العلاقة المُقارنة بين جسدي البائع والفنان المتحرش، ليست جديدةً عن/ على ثقافة الحداثة العربيّة في شكلها الممأسس "الدولة الحديثة" كذلك، فـ"الجسد الشرقي"، إذا كان لنا أن نستعير تعبير التونسي فتحي المسكيني، بات حقًا ومِلكًا مفهومًا بشكلٍ ضمني لمؤسسة الدولة وثقافتها الحاكمة، باقتصادها السياسيّ والاجتماعيّ والمعرفيّ، بل والقيميّ (الدينيّ) في المعيش اليوميّ للمواطن بشكله الفرديّ (بل والحميميّ حتى) والاجتماعيّ، وما تنامي ازدياد ثنائية الحجاب/ التحرّش الاجتماعيّة مثلًا في فضاءاتنا العامة إلا شاهد فج، لا ينفصل عن تغيير تراسيم الإناث وصورها في الكتب المدرسيّة وتحجيبها أو فرض الحجاب على وعي أجيال صغيرة عمريًا، وبعد أن باتت "التربية الوطنيّة" للصف الخامس في مناهج السلطة الفلسطينية تقوم على "شروط النكاح" و"أهميّة إشهار النكاح" و"أهمية الزواج" و"إنجاب الأطفال"، أو أن يدعو منشور إلى مسيرةٍ بمناسبة ذكرى مجزرة كفر قاسم، يُحذر الفتيات من التبرّج، أو أن تحتفل الجموع المصريّة بانتخاب رئيسها بحوادث تحرّش جماعيّة، يبرر لها الإعلام بأن "الشعب مبسوط"!
بعد أن "كنّا نظنّ أنّ إهانة الجسد البشري، أو تعذيبه في السجون، أو حتى اغتصابه أمام عائلته هي أقصى ما كان مُمكنا التعرّض إليه من مصائب أخلاقية على حرمة النفس في أفق ثقافتنا" (فتحي المسكيني)، يغدو "الجسد الشرقي" –العربي في عصر الصورة العنيفة واقعًا تحت عديد أنواع الاستلابات، منها المادي المباشر كالبراميل المتفجرة وسكاكين "داعش" وناره
إذا جاز أن نعتبر ضمن سياق حداثيّ معولم أن "المدينة" هي النموذج والهدف المنشود حداثيًا، والمعيار الذي يقاس به المجتمع المتقدم، من حيث كونها فضاءً، عليه أن يوفر لأجسادنا حقوقها المادية/ الفيزيولوجية والمعنوية/ الأخلاقيّة، فإن الحق الجسديّ في "المدينة" هو معيار لحداثة المجتمع، ولعل الحداثة، إذا كان من ضمن إدعاءاتها الحريّة والديمقراطية، فأي شهادةٍ تقدمها لنا مدننا عن أجسادنا وأجسادنا عن مدننا؟
يشكل "الحق في المدينة" (مكانًا حداثيًّا) لدى المفكر الفرنسي، هنري لويفيفر، إعادة تفكيرٍ راديكاليةٍ للهدف من "الانتماء" إلى مجتمعٍ سياسيٍّ وتعريفه ومضمونه؛ فلويفيفر لا يوظّف المصطلحات الوضعيّة القانونيّة الرسميّة للـ"مواطنة" لتعريف فكرة الانتماء للمجتمع الإنساني سياسيًّا، باعتبارها المعنى الأسمى لـ "المواطنة"، بل هو يرسّخ "الحق في المدينة" في تعريفٍ معياريٍّ، يستند إلى مفهوم الإقامة (Inhabitance)، ضمن حقّين أساسيّين:
الحق في التخصيص في الحيّز المدينّي، بمعنى الحق في الاستخدام والمنفعة: وهو حق "المقيمين/المقيمات" في "الاستخدام الكامل والتام للحيّز المدينّي في حياتهم/ن اليوميّة؛ إنه الحق في العيش واللهو والعمل والوجود في حيزٍ مدينيٍّ بمدينةٍ معينة، وتمثيل هذا الحيز وشغله بشكلٍ متساوٍ وعادل.
الحق في المشاركة والمسؤولية: وهو حق المقيمين/ المقيمات في "الحيّز/ المكان" في لعب دورٍ مركزيٍّ في سيرورات صنع القرار المنوطة بإنتاج الحيز المديني على جميع المستويات، بدءًا من السياسات الفردية للذات في تلك الأمكنة، وصولاً إلى تشكيلاته السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والقيميّة.
ويمكن القول إن تلك الحقوق تسبح في فضاءٍ من متغيراتٍ، تساعد على فهم مفهوم "المواطنة" وتشكيله، بصفتها "حقًّا في المدينة"، منها:
إعادة قياس المواطنة، من خلال إيجاد معايير قياسيّة قيميّة أخرى، تستقي وجودها من مفهوم "القيمة الأخلاقيّة للوجود الإنسانيّ/ الإجتماعيّ" بشكله الأفقي: كالحرية والعدل، وغيرهما، وليس من "الإجراء" الحداثي كالانتخابات، باعتباره بنيةً هرميّةً مؤسسيّةً منفعيّة، تجعل الإنسان جزءاً من المؤسسة، وليس هدفاً لها.
إعادة توجيه المواطنة، بعيدًا عن تمظهراتها القطيعيّة ومؤسساتها، باعتبارها بنًى سلطوية، كـ "الأمة" التي تعتبر بمثابة مجتمع سياسي مهيمن، والذي يتذرّر فيه الفرد لصالح القطيع. (اليابان تمنح حق الانتخاب للمقيمين/ المقيمات على أرضها من غير اليابانيين).
تؤدي إعادة توجيه المواطنة إلى توالد هويات ومجتمعات التعددية السياسيّة والثقافيّة، وبالتالي،
لنا أيضًا أن نتساءل: ما الذي استفز مؤسسة "الدولة الحديثة" في جسد الشاب المغربي، البائع المتجول في المدينة، محسن فكري، لتقوم بقتله/ إفنائه، بطريقة بالغة العنف ماديًا ورمزيًا، من خلال طحن جسده في سيارة النفايات؟ وما الثقافة التي تؤسس لهذا العنف؟
على الجانب الآخر من التساؤل نفسه: ما الذي دفع أعلى رموز الدولة المغربية، الملك، لمؤازرة المطرب المغربي المتحرش، سعيد لمجرد، والدفاع عنه من عقوبة السجن (العقوبة التي تقوم بالأساس على حبس الجسد في مكان ما)؟ وما الثقافة التي تنبني على هذا الدفاع؟
يقول الفيلسوف الفرنسي، جان بودليارد، إن السلطة تتحكم في الواقعي، إنما الرمزي فلا؛ وبالتالي، يتحدد لنا هامش مقاومة أي سلطةٍ من خلال الرمزي. وفي الحالتين السابقتيِّن، ثمّة مواجهة ماديّةٌ ورمزيّةٌ ما، فالدولة مُمثلةً في الشرطيّ، التي أمرت بطحن شكري بائع السمك إنما تُفني وجوده المادي بسلطتها الماديّة والرمزيّة عليه. وأما الرمزيّة أيضًا في أن يدعو رئيس الوزراء المغربي عبد الإله بنكيران (المحسوب على الاتجاه الإسلامي) أتباع حزبه لعدم الانجرار خلف دعوات للتظاهر على خلفيّة تلك الجريمة، ثمّة رمزيّة عالية، تلقي بضوئها على السياسي (الإجرائي) والأيديولوجي (الديني) والقيمي (الكرامة والدين كمنظومة قيميّة)، ها هنا.
وفي الحالة الثانية، تستدعي الدولة/ المؤسسة أعلى رموزها (الملك) في منظومة ملكيّة، ليرسل رسالة واضحة بأن التحرش، بشقيه الماديّ/ الجسديّ و المعنويّ/الأخلاقي، مقبول ضمن رمزية السلطة، والثقافة والمؤسسة، بل والقيمي الأخلاقي الحداثي، كذلك.
علاقة الأفراد بأجسادهم/ أجسادهن من ناحية، وعلاقة تلك الأجساد بالسلطة من ناحية أخرى، هي ما ينبني عليه فضاء الاستسلام لتلك السلطة وفضاء مقاومتها، كما تنبني عليه الهوية الفردية والاجتماعيّة كذلك. فالثقافة إذا كانت أنماطاً فكرية وقيماً ومعتقدات تتشاركها مجموعة محدّدة من الأفراد، وتميزها عن غيرها من المجموعات، شريطة أن تتضمن معنىً يمكن كل فرد أن يفهم ويستوعب عالمه وذاته. وبالتالي، يصبح قادرًا على إنتاج رموزه والتعبير عنها، ضمن ما يمكن تسميته "علاقات اجتماعية"، وهي ما يفعله الأفراد من أنشطة وسلوكيات: "فعل اجتماعي" متضمّن في "بنية اجتماعية". فإن السلطات المغربية ببساطة، تؤسس لثقافةٍ حداثيّةٍ مدينيّة، تقبل وتشجع وتدافع عن التحرّش والانتهاك المادي والرمزي للجسد المؤنث، وما يقابل ذلك من تمجيد الذكر المسيطر المتحرّش، وأن أي خروجٍ عن سلطة هذا الذكر ومقاومته، حتى وإن كان لأسبابٍ معيشيّة يوميّة بحتّة، فمصيره ماديًا ورمزيًا: النفايات.